04

103 6 1
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم . .

04






الخامسة تمامًا،نظر مجددا إلى الساعة غير مصدق،تبًا،حقا إنها الخامسة،وهذا البليد لم ينتهي من عمله بعد !
تمتم بشتيمة،ثمّ رفع بصره إلى المرآة،وعندما التقى بعيني الرجل الواقف وراءه بالضبط،ويداه مشغولتان بشعره،قال بتذمر ساخر وهو يرفع حاجبه الأيسر :
- لم أكن أعلم أن شعري بطول شعر الأميرة رابنزل حتى يأخذ كل هذا الوقت !
"المتعجرف،إنني حقا أستغرب من كم المحبة التي يكنها زميلي المتعب له حتى يرجوني أن أعبث بشعره في هذه الساعة الغير معقولة ! " فكّر الرجل بغيظ قبل أن يجيب وهو يحاول قدر الاستطاعة كبت صوته الخشن الحاقد،وفقط من أجل بهاء وإلا فإنه لا يبالي بهذا المخلوق :
- معذرة حقا سيدي،لكن أنت تعرف أن هذه أول مرة لي معك،ولست أتمتع بالكفاءة العالية مثل زميلي بَهاء حتى أنهي لك مطلبك بالسرعة التي تريد.
رمقه الشاب من خلال المرآة ببرود للحظة،ثم سأل واللامبالاة تلوح على وجهه :
- أما زال مريضا هذا البهاء ؟
أجابه خبير التجميل بإيمائة،ثم عاد وانغمس في تجفيف شعره وتسريحه لبضعة دقائق أخرى أمضاها الشاب في التفكير بما قد أصاب خادمه الوفي بهاء،ثمّ ولحظه السعيد أخرجه خبير التجميل من تفكيره الذي بدأ يسودّ إذ قال بابتهاج بعدما ترك شعره أخيرا :
- هاقد انتهيت،شعرك أسود تخالطه ثلاثة ألوان مختلفة ومنسدلٌ على جانب وجهك كالحرير،مثلما طلبت تمامًا.
وابتعد عن مجال المرآة وأخذ يحدق في الشاب وملامحه بينما يتفقد شعره ويعدل بعض الخصلات من هنا وهناك."أشعر وكأني رأيت هذا الوجه في مكان ما من قبل،لكنه بالتأكيد لم يكن حليقا،ولا شعره بتلك الدرجة الغامقة من الشقرة،والتي طُمرت بفضل صبغاتي السريعة تحت طبقة سوداء الآن تماما !" فكّر الخبير مندهشًا،وفقط بعد ثانية أخرى من النظر إلى الشاب الذي كان يعبث بشيء ما في جيبه الآن،انتبه إلى أنّ عينيه المسدلتين،بالأخصّ حدقتيه الغريبتين الجميلتين،هي التي تجعله يشعر بهذا الضرب من الألفة،وبأنه بالتّأكيد قد رآه قبلًا !
وعلى كلّ،لم يترك له الشاب وقتا زائدا ليتأمل ويتفكر في الأمر أكثر حتى يصل إلى نتيجة،فقد سارع إلى النهوض،ثم شكره بنزق بعدما أشعل سيجارة وضعها في فمه فور أن أخرجها من جيب قميصه الأصفر الرخيص.وتكلّم مجددا عندما وصل إلى المخرج الذي لم يكن بعيدا جدا عن الخبير قائلا بصوت بدا للأخير وكأنه يحمل بين طياته نبرة اعتذار عن الفظاظة والنزق الذي تحدث به معه منذ دخوله :
- ستجد الحساب عند بهاء،أنا أدفع له مقدما ما إن استلم راتبي.
ودفع الباب،ثم خرج لتستقبله ريح أكتوبر الباردة وهي تعبث في الشارع الذي كان شبه خالٍ،فلم يكن أحد غيره وثلاثة من الناس بدوا من بعيد كأنهم حراس أو عمال نظافة،يتجول في جادّة الأسواق والمحلات والمطاعم وهي حتى لم تفتح أنوارها الداخلية بعد !


-


تمددّ سَروب على السرير وأصدر صوتا يشبه المواء.حقًا إنه متعب،أخيرا بعد هذه السهرة الطويلة مع إخوته،وجد سريرا ليريح جسده عليه.التفت إلى الجانب،وقطّب حاجبيه،لقد تذكّر للتو ميّال،وكيف أنه هرب من الجلسة قبل أن يقضي معهم ساعة كاملة حتى،ورغما عنه،شعر بحسد طفيف حياله،لكونه يستطيع التخلي عن أي شيء بهذه السهولة،والركض وراء راحة نفسه،دون أن يشعر ولو بوخزة من تأنيب الضمير !
تثاءب فجأة،وكان هذا كفيلا بتبديد هذه الأفكار الغبية،ولم يبقَ برأسه سوى أنه يريد الاطمئنان عليه،ومعرفة أين ذهب،لذا أسرع ومد يده ليلتقط هاتفه المحمول من الطاولة،وما إن وضعه أمام عينيه وأضاء شاشته،حتى تراءت أمامه رسالة من ميال،فتحها،وقرأها على عجل :
" لقد ذهبت في رحلة مفاجئة وضرورية،أخبر أبي أنّي لن أعود قبل أسبوع على الأقل".هذه المرّة،رغمًا عنه احمّرت عيناه غيظًـا " رحلة ها !" تمتم غاضبا وهو يكاد يكزّ على أسنانه،تبًا لهذا الميّال،إلى متى وهو يستهتر بمشاعر أبيه إلى هذه الدرجة ؟!
أجل،لقد بدا المعنى وراء كلمة "ضرورية" ضبابيا لِسَروب،بل لم يجهد نفسه بالتأمل فيه ثانية واحدة أصلا،إنه يعرف بالحدس فقط،أنه كاذب،وأن هذه الرحلة ليست إلا للتسكع.واغتاظ مجددا،لن يتوب ميّال من رفضه للاعتراف بأنه هارب فقط،ليست هذه المرة الأولى أيضًا،لقد فعلها مرات عدة،في أوقات حرجة كهذه،أوقات كان مجرد رؤية السيد جلال له فيها،موجودًا أمام عينه،يكفي.لكنه يصر على فعلها مجددا ومجددا،بلا مبالاة خارقة !
تلّوى سَروب في فراشه بسرعة،لم يجد نفسه إلا وهو يرمي الهاتف بعيدا من الغيظ،نعم،لم يفكر لحظة بالاتصال عليه ومواجهته ولومه،فبالتّأكيد،فور أن أرسل له هذه الرسالة،أقفل هاتفه ليختفي مثل ذرّة غبار،ولا يعود إلا بعد أسبوعين على الأقل،وليس أسبوعا كما ذكر !
توقّف سَروب فجأة عن التفكير،إنه لن يرهق نفسه أكثر،اعتدل في فراشه،وسحب الغطاء حتى لامس أنفه،ثمّ أغمض عينيه بقوة،مثل طفل،يرغب بالنوم من أجل شيء مشوق سيحصل غدا،ولكن الأفكار والتوقعات في رأسه لا تخبو ولا تهدأ.


-


هاهي الشمس،تبزغ وتخترق أشعتها الضباب الصباحي البارد،بينما يفتح النسيم عينيه بهدوء ليدغدغ العالم بلمسات رمشاته.وكل هذه الروعة من حوله،وفوقه،في السماء حيث الزرقة الناعمة التي لم تتخلص من شوائب اللون البنفسجي بعد،حيث الغيوم الطّافية التي تبدو وكأنها توشوش للسماء وتمسح عليها برقة.كل هذه الروعة،تخدش صدره،وتجيش فيه شعورا غير مفهوم،لكنه يترك عليه تأثيرا كالمخدر !
آه،كم يعشق وقت الشروق،ويدمن التهامه بعينيه الدّاكنتين،ولا يشبع،يصعد كل يوم إلى سطح منزلهم منذ الساعة الخامسة،يتّكأ بمرفقيه على السّور،وبينما يلفح الهواء وشاحه الصّوفي الأزرق،وسترته القديمة المهترئة،يصغي،إلى ضجيج الشارع،مواء القطة السوداء أمام باب المنزل،العجوز الذي اعتاد على رؤيته عائدا من المخبز الذي يبعد عن منزله والمسجد بشارع واحد وهو يحمل بيده كيسا مليئا بالخبز المعد للتو،الصبية الصغار الذين يخرجون للعب مبكرا هاربين من أمهاتهم قبل أن يمسكن بهن ويجبرونهن على أكل طعام الإفطار بسرعة والتجهيز للذهاب إلى المدرسة،كل هذه التفاصيل اليومية الصغيرة،يرقبها من عينيه وكأنه جالس في أبعد زاوية من رأسه،وينغمس في شروده.
وكالعادة،بعد نصف ساعة تماما من غرقه في نفسه وتأمله،أتاه صراخ والده من الأسفل مناديًا إياه بالنبرة العجولة المستفزة التي لا تتغير :
-" يمااان يمااان"
لم يملك يمان إلا أن يتأفف،ثم يسرع متخلّيا عن محراب تأمله لينزل إلى الأسفل حيث ينتظره والده،والتحريض اليومي المعتاد من والدته التي لا تفتر.
ترك الباب وراءه مواربًا،وأخذ ينزل الدرج الإسمنتي الضيق ذا الإنارة الضعيفة بخطوات ملولة،بلغ الساحة الصغيرة التي تفصل بين الدرج وبين باب شقتهم.وعندما رفع ناظريه،ألفى أباه واقفا عند العتبة التي تناثرت أسفلها الأحذية.ابتسم في وجه أبيه النّكِد ابتسامة صفراء فأشاح عنه كأنه دودة والتفت ماشيًا إلى الداخل وهو يقول آمرًا بصوت يشوبه التهديد :
-" لا تطمع بالذهاب إلى الثانوية اليوم،المخزن خاصتي يحتاج إلى تنظيف،وبعد أن تنتهي منه،ستذهب إلى كراج ومخزن صديقي كامِل وتنظفه مع ابنه وارِف "
ارتفع حاجب يمان،وظهر التمرد في وجهه،بالطبع فإن والده لا يراه الآن.تقدم داخلا وهو يتمتم بسخرية :
-" وكأني أريد الذهاب أصلًا !"
لم يسمعه والده،فقد أسرع بالذهاب بعد أن ألقى عليه أوامره.أغلق يمان الباب الخشبي الذي تفسخ عنه طلائه الأبيض،ومشى مسرعا ناسيا أن يخلع حذاءه إلى المطبخ حيث والدته التي فور أن سمعت خطواته التفتت إليه ونادته بحركة من يدها.سألته باهتمام عندما أبصرت ملامحه الفتية متعكّرة :
-" مابك ؟ هل منعك من الذهاب إلى المدرسة أيضا ؟"
جاوبها بأن أمال شفتيه إلى اليسار ورفع منكبيه بحركة سريعة تدل على عدم الحيلة،ففهمت أنها كانت محقة.تراجعت إلى الوراء بعض الشيء وعادت لتكمل إعداد الشطائر بالجبن وهي تتحسر بصوت خفيض :
-" لا أعلم متى يفهم أنك الآن في سنتك الأخيرة وفترة الامتحانات اقتربت،لا زال يغيبك عن الحضور من أجل هذه الأعمال التافهة أيامًا كثيرة !"
التفتت إليه ووضعت يديها على كتفيه وقربته إليها،وركزت نظراتها في عينيه :
-" اسمع يايمان،مهما كان الوضع لا أريدك أن ترسب أبدًا،عليك أن تنجح بأي طريقة ولو بسرقة أسئلة الامتحانات من الأساتذة أو نقل الإجابات من الطلاب،لا بد بأن تدخل الجامعة وتحصل على عمل حتى تخلصنا منه ومن سطوته !"
تركت كتفيه وعادت إلى الشطائر ثم تحسرت مجددا عبر تنهيدة وتابعت الحديث محرضة يمان :
-" هل تعلم ماذا فعل بأختك الكبرى أمس ؟ لقد ضربها مجددا وأفسد بعض لوحاتها فقط لأنها تأخرت لوقت لا يكاد يتعدى الربع ساعة قابلت فيه صديقتها بالمقهى القريب بعد عودتها من العمل لتسلمها بعض المال الذي طلبت أن تقترضه منها لأمر مهم،وهددّها بأنها إذا فعلتها مرة أخرى فسيفصلها،مذكّرًا إياها بأنه لم يسمح لها بأن تعمل إلا من أجل أن تسهم في زيادة كسب الأسرة من المال فقط،وليس لأنه يشجع عمل الفتيات خارجًا !
وأيضا أختك الصغرى . ."
وهمّت بأن تكمل،لولا أن يمان ترجّاها قائلا وهو يشيح بوجهه قليلا بحياء :
-" أمي،أرجوكِ،يكفي !"
رمقته بطرف عينها،ثم حركت فمها مستعجبة،ولم تعاود الكلام.
قال لها يمان بلا مبالاة وهو يسير ليخرج :
-" لا أريد شطيرة اليوم،بل فقط كوب قهوة مع الحليب مع القدر المعتاد من السكر "
وخرج مسرعا لئلا يسمع اعتراضا وشيئا كـ"وراءك عمل كثير ويجب عليك أن تأكل !" سيمر حين ذهابه بالمقهى ويأكل شطيرة الدجاج المفضلة لديه بينما يستأنس بالحديث مع النادل نِضال وصديقه يوسف ثمّ يذهب ليبدأ العمل،وربما يطلب منهما مساعدته،وفلتذهب الثانوية للجحيم !

العَجَلة الدّوّارَةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن