لَم يُجدِ النَوم نفعاً فإن روحي هي المُتعَبة، وَإن كان سَيُجدي البُكاء نفعاً لَكان فَعل منذ زَمن..
بَعض الحقائِق نُدرِكها حتماً ولَكن بَعدَ وقتٍ طويل، ها أنا أُدرِكُ واقِعاً تَمنيتُ لو أنني أدركتهُ منذ زمن، لو أنني لم أُهدِر عُمري هباءً ولَكن لا بأس، كان الأمر يستحق..
بَعد سنوات مِن العلاج النفسي، بعد سنوات مِن المُعاناةِ والألم، بَعد صراعٍ عنيف بين الهروب والمواجهة، النصر والإنهزام، والإستسلام والبكاء، أدركت أن لا أحد بإمكانه مساعدتي، واقتنعت أنه لا فائدة من الطبيب النفسي والعلاج والمختصين، أدركتُ أنني مقيدةُ بسلاسِل الذكريات بين جُدران الوِحدة، أدركتُ أن الداء الحقيقي هو عقلي، وأن دوائي الوحيد هو عقلي أيضاً.
اليوم هو بِداية جديدة، عاهدت نفسي أن لا أستسلم حتى آخِر أنفاسي، اليوم قررت تطبيق كُل معتقداتي ونصائحي التي دائماً أعطيها للجميع وأكون آخر من يعمل بها، قررت أن أسير بمبدأ "نحن نعيش مرةً واحِدة، دعونا نحيا كما نتمنى".
استيقظت قَبل صلاةِ الفَجر بنصف ساعة، كان يجب أن أُصلِح علاقتي بالله أولاً كي أستطيع المضي قدماً، قرأت الأذكار وما تيسر لي مِن القرآن حتى الآذان، صليت ودعوت الله باكيةً "اللهم أعني على التغيير، لقد عزمت أن أغيرَ واقعاً حزين لا يُرضيك يا الله، أعلم أنها ليست المرة الأولى التي أدعوك هكذا، ولكن يا الله أعني أن تُصبِح الأخيرة"، قضيت عشر دقائق في صلاة الفجر دون السُنة، كانت الدقائق مِن نصيب الدُعاء والخشوع، صليت كثيراً طيلة حياتي ولكن فَجر اليوم كان مُختلِفاً، شعرت أنني ولأول مرة تواصلت مع الله بكُلِ حواسي وليس لِساني فقط، أعلمُ أن الله أحن مِن أن يترُكني دون استجابة.
نهضتُ وارتديت ثيابي الرياضية وأخذت مِسبحتي ومفاتيحي وتركت المَنزل ركضاً نحو التَقدم، تركت الحُزن والمصائب وكُل ما يَقتُلني عقلي به، هَجرت هاتفي والأغاني والبشر وأنصتُّ فقط لصوت قلبي والعصافير، أفرغتُ حُزن سنواتٍ في بضع خطوات بين الأشجارِ والطيور، العالم لم يتغير في الواقع فَمازالت الشوارع فوضاوية، والأشجار تكاد تنهار من فرط ذبولها، والعصافير هجرت شوارعي منذ زمن ولم تَعُد، والمياه مازالت راكِدة والسماء مخيفه، ولكن هذا الصباح عزمت أن أرى كُل جميلٍ وأتغاضى عن كُل الآلام، رأيت السماء صافية، وخيوط الشمس تتسلل بين أوراق الشجر، رأيتُ زهرة جعلت يومي لطيفاً جداً، رأيت إنعكاس الضوء على البَحر الذي جَعل من مياهه الراكِدة "قطرات ذهبٍ لامعة"، سَمعتُ عصفوراً يَعزِفُ لي الأمل في عودةِ الطيورِ يوماً، رأيتُ إنحناء الأشجارِ على جانبي الطريق الذي جَعل مِنه طريقاً للأمراء في عَيني، أيقنت حينها أن في كُل قُبحٍ جمالٌ خَفي ولَكن لمن يَهتم.عُدتُ للمنزِل بَعد أن القيت عِبء الأيامِ خلفي، وغيرت تفكيري والقيت ذِكرياتٍ لا أهتم لها ولكنها تهتم لأمرِ قتلي، عُدت للإيمان بأن مَن يريد شيئاً يستطيع فِعله فَما وضع الله في القلب لذة الوصول لشيء إلا لأنه يعلم أني أستطيع، أحضرت بعض الأوراقِ الملونة وكَتبتُ عليها عباراتٍ لطالما قرأتها ولكن بعيني فقط، لم أكترث أبداً لتطبيقها على ذاتي.