نسائم ربي تلف قريتنا البائسة الصغيرة، تتخلل بين البيوت والطرقات، بين الأشجار والأوراق، فتتهادى الأخيرة على مهل، على مهل.
تفترش الاوراق المتساقطة الارض بحراً، ثم تشيخ ، ألفرط ما بكت ياترى؟، أم شوقاً للشجرة التي لفظتها بعد أن حملتها عمراً؟، وهل يحق للشجرة بعد أن آوتها عمرها الزهي أن تتخفف منها عند المشيب؟، من يدري، لكن لوحة الخريف الحمراء هي الأجمل قطعاً.-ذكريات!!.
انتشلني من تأملاتي نعيقها الحاد عائداً بي لغرفة الصف الضيقة الناشفة من أي قطرة جمال كصوتها!-طلبت منكن قراءة الدرس لا السرحان في النافذة.
-لقد قرأته.
رأيتها تعدل نظارتها المنسدلة على طرف أنفها المعوّج وقد رفعت حاجبها ثم اتبعت باستخفاف واضح:
-حقاً، إذن لما لا تنهضين وتخبرين زميلاتك عما كان درسنا...و آه اغلقي الكتاب.
هي لا تصدقني!، وكمن يريد احراجي!، نهضت من مقعدي وأخذت أسرد لها الدرس كاملاً بزهو، كلمة بكلمة كأنما بالكتاب أمامي.-يا إلهي ما هذه الفتاة! هل هي طبيعية؟
-هذا مخيف فعلاً.قاطعتني التصريحات المتعالية من المقاعد بجانبي، وتلفّتُ للطالبات باستغراب، تمتمات كثيرة، وبسبساتٌ أكثر، نظرات مذهولة من الجميع، لحظتها بدأت أشعر بتسارع نبضاتي، وبصدري يضيق على أنفاسي، زحفت البرودة لأطرافي؛ فتكورت حول نفسي.
لماذا ينظرون إلي بهذا الشكل؟ ما الخطأ الذي اقترفته، استجمعت تلابيب شجاعتي المهدرة من نظراتهم وسألت-وقد خرج صوتي شاحباً مرتفجاً-:
-هل اخطأت؟
ولا انسى الفتاة التي قفزت من مقعدها كالمقروصة من السؤال وهتافها:
-لا! أنت لم تخطأي حتى خطأً واحد، كيف لك أن تتذكري كل كلمة كُتبت في الكتاب، أساحرة أنتِ؟هل عرفتَ يوماً أن تكون ملعوناً بإسمك؟
—————
-ها هي..أرأيتي؟، كما أخبرتك!
-فعلاً فعلاً..عندما أمعنت بها قليلاً انتبهت لنظرتها غير السوية!..أتخالينها مجنونة؟
-لا لا ليست كذلك..سمعت النسوة لما اجتمعن في بيتنا يقلن أنه عذاب من الله، سلط عليها شيطاناً لتبوء بسوء عملها سابقاً.
-آه رباه..ومالذي كانت تفعله؟!
-كانت تستعين بالشياطين والجن لتظهر وكأنها بقوىً غير طبيعية، كأن تنظر لكتابٍ نظرة واحدة وتسرد كل حرف وحركة وسكون فيه!!-كفاكما!!
نهرتهما بملئ ما استطعت، وصرخت أن تكفين لسانيهما عديما المنفعة في غير نهش لحوم البشر، فقد ضقت ذرعاً بترهاتهم وأحاديثهم السقيمة، وقد ولين مدبرات متعثرات بكركرتهم القبيحة، عقول جاهلة أبعد ما تبصر هو موضع قدمها.
تباً لهم ولجهلهم من بشر، أهم يقسمون رحمة ربي وعذابه؟.
أخذت شهيقاً طويلاً قدر ما استطعت ثم زفرته بهدوءٍ أعاد إليّ توازني، أنفاسي يحيلها البرد من حولي لبخار يتصاعد أمامي ثم يختفي في هنيهة، حديثهم السقيم أفسد عليّ متعة الخريف واجواءه البهية عند الشروق، كم أحب الخريف وحُمرة الأرض التي يكسبها إياها...وهي أيضاً كانت تحبه بقدر ما صار يوجعها الآن.
توجهت إليها، إلى حيث كُن يشرن بالأصابع، على دكة البيت المقابل، تجلس، حيث هي دائماً، على قارعة الزمن، مكبلة الأوصال، ومسلوبة الفؤاد، تجلس مع نفسها وكوب حليب دافئ.
أنت تقرأ
ذكريات متساقطة
Truyện Ngắnذكريات... هل عرفت يوماً أن تكون ملعوناً بإسمك ؟ نعمة قلبتها الأفواه نقمة من جحيم.. وعندما تصير حبيساً لذكريات تأبى التزحزح ولو هنية من الزمن.. يرتدي الفرج لباس النقمة ويأتي..