عنوان الجزء

22 1 0
                                    


لم يكن لأحد أن يصدق ماحدث! وكلما أتصال احد الأقارب او الأصدقاء يسأل: كيف حصل ذلك؟ او يهون ويشارك مصابهم.
كان تبادل اللوم وموجات الأسف يخض البيت، كما يفعلُ زلزالٌ عنيف، وقد كان لأتصال لمى أخت عمار الكبرى، أعنف الأثرعلى البيت كله وعلى عمار خصوصاً. لمى التي أخفى الجميع الخبرعنها لثلاثة أيام لكي لاتحرقها الحسرة هناك في الغربة. وقد أتفقوا على أخبارها، لكن ليس الآن، على الأقل لحين إستيعابهم، هُم، لما حدث للحد الذي يسمح بالشرح والمواساة، لكن إحدى القريبات البعيدات نسفت الأتفاق دون أن تقصد؛ لأنها كانت تجهلهُ، وأخبرتها بكل شيء.
حينما رن موبايل( نغم )أصغر البنات مشيراً الى أن لمى هي المتصل جالات العيون وبحلقت، متنصلة من هذا العبء الشاق، بتصويب نظراتها الى عمار! لأنهُ الأخ الأكبر الذي تذكر الجميعُ فجاءة، أنهُ هو من ينبغي لهُ أن يتحدث بإِسم الجميع وينوب عنهم. بعد لحظات من الصمت والسكون الذي لايتخلله سوى نغمة الاتصال والعيون المبحلقة فيه، إستسلم لهذا التكليف-بعد أن تأكد بنظرة خاطفة الى الوجوه الشاحبة المخاتلة أن لامناص من هذا العبء- تناول الموبايل من على الطاولة حيثُ القتُه( نغم) بتقزز متبرءةً منهُ مع أول رنة وكأنهُ حيوانٌ صغير لزج، وكريه..
كانت تبكي بغزارة سحابة شتائية سوداء، عندما فتح عمار الخط ، وماكادت تصل الى مسامعها تحية ترحيب عمار المهزوزة حتى طفقت من فمها الكلمات حارة، ثقيلة كحمم بركانية:(ليش هيّجْ أتسوون! ليش... ولكم ماگدرتوا أديرون بالكم عليها.. ليش هيج !)
بللت دموعها الحارقة البيت-على بعدها-، وخلتّ كلماتها التي تسترقها في غفلة النشيج والعبرات الخانقة البيت بأهله، بأثاثهُ، بجدرانهُ يثغب كطفلاً أضاع أمهُ في سوقٍ مكتض. تلعثم عمار وضاعت الكلماتُ منهُ، فلم يعرف كيف يبرر لها او يهون عليها. وكل ماخطر لهُ ساعتها أن يهاجمها ليدافع عن نفسه، ولكي تتحمل هي أيضاً بعض المسؤؤلية-حسب تؤيله-، فراح يُعيرها لأنها هاجرت لاحقةٍ بزوجها الذي هرب بكل شجاعة مع أول نفس من أنفاس حرب الطائفية التي هتكت البلاد بعد سقوط النظام عام٢٠٠٣. وأتهمها بأنها نسيتهم وسط الرخاء الأوربي ولم يعرف حينها إنّ كان يُدافعُ عن نفسهُ أم يُفرغُ حقده المكبوت عليها، وغبطته لها لأنها تعيش حياة تليق بالبشر بينما نحنُ-حسب تعبيرهُ-هنا ننزف أعمارنا على ضفاف نهري هذا القبر الفسيح، العزيز، الخطر، الوحشي، غير الصالح للعيش البشري. أغلقتْ الخط في وجهه، بعد تلك الهجمة الجلفة غير المتوقعة منهُ. أنتصب في مكانه، يهزهُ رُعاش الرغبة في العراك، وراح يصرخ بها؛ يُعير ينتقص، يَسُب، ويلعن الى أن تنبه أنهى أغلقت الخط. فقذف الموبايل على الأريكة، وصرخ بالوجوه الحشرية غير الراضية المبحلقة فيه بعتاب <<شكووو! هذا العندي الكاتلتة الحنية على أُمةَ يگعد يمها، مو گاعد بالجنة وجايّ يلوم بيةّ، وأنّي هنا مستلگ أبو أبوي على ما أدبر الخبزة، وعلاجها>>غمغم رعد ثاني الأخوة والذي يصغر عمار بعامين، وهو يهم بالخروج الى فناء المنزل<<هذا مو منطق تحاچي بي لمى>>صمت، عمار مشيحاً بوجهه عن الجميع لا خوفاً ولاندماً بل لأنهُ يعرف أن هَذِهِ عادة رعد يقول كلمتهُ ويخرج ولن يجيبهُ او يجادلهُ بعدها، حتى لو حفى لسانه وهو يعنفهُ بأبذء القول. خر بعد رعد بقية أفراد العائلة تباعاً كخرز مسبحة قُض خيطها، سارة، ثم نغم، ثم إحسان الذي مابرح أن عاد بعد لحظات. وكان عمار حينها قد أشعل سيجاره وراح ينفخ فوران دمه وتأييده ورضاه الذي يعلم أنهُ سيندمُ عليهِ كعادته في مثل هكذا مواقف، عندما يستشري غضبهُ فيعميه عمن حولهُ، ويفقدهُ عقله.
< عمار أنت شفتها من طلعت من البيت صحيح و...>قال حسان وتوقف لهنيهة، ليجُس نبض وردة فعل عمار. أبتسم أبتسامة عريضة ساخرة
<وشنو..؟> قال بما يشبه الهسيس وهو يصوب نظرة جائعة في وجه حسان الذي أستشعر نضوح قطرات العرق الباردة على جبينه وضهر وألتزم الصمت ليمهد للأنسحاب من المكان قبل ان تتفاقم الأمور؛ لكن عمار لم يمهلهُ الوقت للأنسحاب إذ مع تمادي صمت حسان، جُن جنونه وراح يصرخ بكل ما للمحتالين من مكراً للهرب من مواجهة الحقيقة المُحيقة<وشنو...وشنو كمل..گولها ليش سكتت، ها! گول أنّي متقصد أموتها، گولها من شنو خايف> لم ينبس إحسان بكلمة وأكتفى بزم شفتيه وتنويخ رأسهِ، مثلما يفعل كل مرة عندما يحرجهُ أحد، وخرج بخطى حثيثة من الصالة. تاركاً المكان لعمار الذي أنتصب عند باب الصالة حيث لحق بهِ، وراح يطلق الشتائم واللعنات وينتفض كوحشاً في حالة هياجٍ تام الى أن تأكد أن حسان خرج ولم يعد لشيءٍ مما يفعلهُ جدوى فصمت وراح يلفُ الصالة بخطىٍ مضطربة كمن أضاع شيئاً، يُقلب الأشياء بعينيه دون أن يراها، الى أن أستقر أمام النافذة التي تطل على الشارع، وتسمح-لمن يقف- برؤية مكان وقوع الحادث من خلال الباب الذي كان موارباً حينها. أشعل سيجاراً، وراح يعُيد على نفسهِ أسألة الأيام الثلاثة الماضية، والتي لم تفارقهُ حتى في مناماتهِ: كيف سهوت عنها ياعمار، كيف! كيف وأنت تعرف أكثر من الجميع من خلال طوفانك الدوري بها خلال السنوات الخمس الماضية لإيقاف نهم وحش الزهايمر الذي ألتهم ذاكرتها بذكرياتهم العزيزة والمنحوسة على سواء، وأسماء، ووجوه الأقارب فما رضي حتى عندما غدت تبحلق في وجهك، ووجوه أخوتك وأخواتك في كل مرة تقتربون منها، بغريزةإنجذاب الطفل أمه. فتبحلق بكم حينها بكل ما لإقتراب الغرباء، من أرتباك وتحفظ وأختناق.
أتذكر ياعمار عندما أريتها صورة والدك فلم تعرفهُ..! حينها نزفت دموعك كجندياً غيور يعرف أنهُ خسر المعركة، كاتماً لوعتك وحزنك لئلا تُريها إنكسارك. حينها هي سألت الممرضة عن سبب بكاء هذا الرجل عند سريرها...هذا الرجل الغريب الذي يبدو شكلهُ مألوفًا لها الى حدٍ ما، لكنها ببساطة لاتتذكر إنّ كان حارس الحديقة أم صاحب دُكان البقالة، أم جاراً قديمًا أنتقل من المنطقة منذُ زمن. أنت بلاشك تذكر ياعمار، وتعرف أكثر من غيرك أنها صارت مثل طفلاً مشاكس ينبغي أن يظل تحت العين لئلا يؤذي نفسه، ومع أنك تعلم علم اليقين أنك مهمل وأنهُ لاينبغي الأعتماد عليك حتى في مراقبة نفسك. وخيرٌ دليلاً على ذلك أهمالك ورعونتك التي أجبرت زوجتك على هجرك، وخلعك لأنك ببساطة لست أهلاً لشيء! مع ذلك رفضت أن تأخذها أحدى أخواتك وحتى عندما تشاجرت مع رعد أكثر شخصاً يعرف مدى سُبهلليتك وأهمالك رفضت أن يأخذها الى بيتهِ رغم أن زوجتهُ طيبة وتحب أمك كما لايليق بكنة وحماة، وكل ذلك لماذا!
فقط لكي لايجرح كبرياءوك بخروجها من بيتك وأنت كبير العائلة، ولكي لايقول الناس أن أمك خرجت من بيت العائلة لتسكن في بيتٍ أخر، لأن بكر الرجال ليس...وبماذا ينفع كل هذا وأنت فرطت بها الآن؟ لكن، لماذا..لماذا أصررت عند خروجها من المستشفى بعد رقادها الأخير الطويل فيهِ والذي أرهقها وأنساها أن النار تحرق وإنّ السكين تجرح. لماذا حرنت! لماذا؟
حتى بعد أن قالت لك سارة أنها لن تستطيع أن تحضر كل يوم في الصباح والمساء لأن أولادها لديهم مدارس، وأشغال البيت تريدُ من يقوم بها، وأن زوجها لم يعد يطيق سُكنها الدائم هنا، لأنهُ يتعرض للحرج والأزدراء من أمه وأخوته كلما ذهب ليتغدا او يتعشا عندهم، بسبب تغيبها الدائم!
أتذكر كيف أنها أرهقتك وافقدتك صبرك منذُ اليوم الأول، وكيف أن صبرك كل يوم كان ينفد بعد أول ساعة تعود فيها من عملك ويذهب من تبرع للبقاء عندها في الصباح. وكيف كنت تصيح في وجهها، مفرغاً عليها قهر يوم عملك وخنقة أزدحامات بغداد.. نعم كنتُ تصيح في وجهها، ولأدنى خطأ منها لاتعيه، وتشدها من يدها بقوة لتعيدها الى سريرها وكأنها وحشٌ لايجب أن يغادر قفصه. وعندما يتصل أحدٌ من رفاقك طالباً أياك للخروج في المساء لعشاءٍ او لقتل الوقت لاغير، أتذكر كيف كنت تخبرهُ بكل وقاحة ودون خجلاً منها او من نفسك، أنك لاتستطيع؛ لأنها لايجب أن تترك لوحدها وإلاّ تسببت بكارثة، لأنها وحشٌ يقيدك..وحشٌ رباك حتى صرت على ماصرت، لتقول ماتقول أمامها علانية، ودون أدنى مدارة لها. وكأنك تأمل أن تفهم. لكنها للأسف لاتعي ماتقول، رغم أنها كانت تنفجرُ باكية بعد كل أتصالاً لك من هذا النوع! كانت تنفجر وتتشضا كقطرة مطر تسقط من غيومٍ بعيدة على أرضية إسمنتية او كطفلةٍ لم تعرف الكلام بعد لكنها تعرف الأساءة من نبرة الصوت.
لكن هل ممللت منها؟
في ذلك المساء وبعد جولات من المطاردة والصياح والشد الى السرير، وصيحتك النارية، الأخيرة في وجهها، التي أحرقت ملامحها، وكيف أنها ذابت كحبةِ سكُر في كوب شاياً ساخن، من جراءها، وراحت ترتجف وتتكسر كموجة واهنة على جرفٍ صخري، وكيف خمدت بعدها ودفنت رأسها تحت الوسادة وتشرنقت بالبابطانية، هرباً منك، وراحت تنزفُ عويلاً مكتوماً وكأنها لبوة جريحة. لازلت تذكر ذلك..وتذكر جيداً كيف أنك لم تأبه بتفتتها ذاك، وتشضيها أمامك، بل العكس خرجت من الغرفة متلذذٍ بنشوة القصاص من ذلك الكائن الخطاء..ذلك الكائن الضعيف كطفلاً أمام صُراخك الرعدي، وجرجراتك الزلزالية التي تخلخل عضامهُا الهشة!
لكن ياعمار لماذا..قل لي لماذا؛ عندما لمحتها تخرج من باب الغرفة بعد ساعة من السكون القبري، تجر نفسها كجثة بعثت بعد رقاداً طويل شوه معالمها البشرية، وأفقدها أحساسها بالأرض المنبسطة حتى غدت خطواتها الأخيرة متعثرة كأول خطوات الأطفال، عندما مرقت بمحاذاة حائط الممر المفضي الى الباب الرئيسي، وخشخشة ثوبها السافرة، وهو يحتك بالحائط الذي إلتصقت بهِ في مشيتها الأخيرة تلك، تتكئ عليه ليعينها على خطواتها الأخيرة..وخشخشة ثوبها ألم تلفت أنتباهاك، ألهذا الدرجة كنتُ ساهياً عنها؟
بلى..لفتت، أساساً أنت رأيتها منذُ مدت عنقها أول مرة من الباب لتأمن أن الوحش لايرها، لكن أنت ماذا فعلت؟ قلبت شفتيك، وقلت في نفسك (طُز)، وتظاهرت بأنك مندمج مع مبارة كرة القدم التي كانت تعرض في تلك الساعة، لنادي الزوراء ونادي الحدود،رغم أنها لم تكن مهمة!
(طُز )!!
لماذا إِذن، هرعت كأُماً منكوبة بفلذة كبدها-مادامت (طُز )- عندما سمعت شخطة المكابح الحادة على أسفلت الشارع، وصيحتها الأخيرة، الغريزية، صيحتها السميكة اللزجة، المتهدجة كعواءاً يتيم في عمق الصحراء.. صيحتها! صيحتها التي عندما أمتزجت بصرخة بوق السيارة المحذر؛ صارت تشبهُ عويل حيواناً يصابُ بطلقٍ ناري في غابة نائمة، فيملأ الفضاء برائحة ألم الأحتضار!
لكن...هي...أنا...
لاتقل شيئاً، نجت منك.. ياعمار نجت منك بالموت .
أفرح الآن صرت مسؤلاً أفرح، وأنثر رضاك بين الناس، لأنها لم تخرج من بيتك إلاّ جنازة.
أو فل نَقُل أخرجتها!...

طّزحيث تعيش القصص. اكتشف الآن