أقعت سيرين في موقعها وهي تتنهد بقوة لعل الألم الذي يعتصر عضلات ذراعيها يخفت ولو قليلاً.. كانت قبضتاها الممسكتان بسيفها الطويل ترتجفان ألماً، وتساءلت في سرها لمَ لا يمكن للبشر أن يقاتلوا بأسلحةٍ أكثر جدوى كالمدافع والقنابل وربما المسدسات الليزرية الحديثة.. لكن لم يكن الوقت ملائماً لمثل هذه التساؤلات والضجة الصادرة عن البوابة الفولاذية القريبة لا تبشر بالخير.. زفرت بقوة، ونهضت واقفة والعرق يغمر جسدها المثقل بذلك الرداء الذي رغم سماكة قماشه اللدن إلا أنه كان خفيفاً كأنه قميصٌ قطني قد يرتديه المرء في الليالي الصيفية الحارة.. ورغم ذلك، كانت سيرين تشعر بالحر الشديد واللهب يتصاعد في أعماقها جراء المجهود المضاعف الذي بذلته في الساعات الأخيرة دون راحةٍ تذكر.. والخوذة الزجاجية التي تحيط برأسها تجعل الأمر أكثر سوءاً مع أنفاسها الحارة التي تكسو الزجاج بلمحةٍ ضبابية خفيفة تخبو وتزداد مع كل نَفَسٍ وآخر..
سارت في الممر الطويل بخطواتٍ حمّلتها آخر ما تملك من عزيمة، لكنها بدت مهتزة مرتجفة كارتجاف ساقيها المحتجتين على ما بذلتاه من مجهود.. توقفت فجأة عن السير قرب الجانب الزجاجي من هذا الممر، ورفعت بصرها نحو السماء السوداء.. تلك السماء التي حملت مئات الآلاف من النجوم المضيئة الزاهية بجمالٍ لا يمكن إنكاره.. يتوسطها ثلاثة أقمارٍ متفاوتة الحجم تقارَب اثنان منها نحو الشمال بينما توسط ثالثهما السماء بحجمٍ يكاد يضيء الأرض بنورٍ زاهٍ يزيل عتمتها..
تزايدت رجفة ساقيها، فأسندت سيرين ظهرها للجدار وانسلّت نحو الأرض جالسةً مرغمة.. ثم رفعت بصرها للسماء تتأمل جوانبها.. تبحث بعينيها عن تلك الشرارة.. تلك الشعلة التي ستعلن عن بدايةٍ ستقودهم لنهايةٍ حتمية لا مفر منها.. ولا مهرب من توابعها...
**********
لم تدرِ سيرين وهي تنضم لإحدى الرحلات الفضائية على ظهر المكوك الفضائي الضخم (شهاب-١٥) بما ينتظرها في نهاية هذه الرحلة.. لم تكن تلك الرحلات غير معتادة في النصف الثاني من القرن الثالث والعشرين مع التطور الهائل في مجال الرحلات الفضائية منذ قرن ونصف، ولم تقتصر على رحلاتٍ استكشافية بحتة، بل تطورت لبناء مستوطنات فضائية محدودة الحجم في بعض الكواكب والأقمار القريبة في المجموعة الشمسية، والتي ابتدأت بمستوطنة القمر التابع للأرض ثم تتالت المستوطنات بعد تلك التجربة الناجحة لتكتمل عشر منها على امتداد المجموعة..
لم يكن بناء المستوطنات الفضائية بالصعوبة التي تخيلها البشر مع وجود المعدات الآلية التي تتمتع بذكاء اصطناعي محدود يمكنها من القيام بمهامها في إنشاء المستوطنة دون المخاطرة بالبشر، مع إشرافٍ بشريٍّ محدود يتم من بعد عبر محطات فضائية تتخذ موقعها قرب الكوكب المعنيّ حتى إتمام البناء الذي يستغرق ما لا يزيد على ستة أشهر كحدٍّ أقصى.. وبعد انتهائها، يتم التأكد من مستويات الأمان والثبات في المستوطنة المحاطة بقبة زجاجية سميكة معززة بخيوط فولاذية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، مانحةً الزجاج صلادة وقوة تحمّل ضد أقسى الظروف المناخية والصدمات المتوقعة في الكواكب والأقمار التي لا تحوي غلافاً جوياً يحميها من الأجرام السماوية المتناثرة.. وبعد عدة مراحل من اختبارات السلامة، يبدأ توافد البشر للمستوطنة بشكل محدود، وحالياً لا يتجاوز عددهم في أيها عن عدة آلاف أغلبهم ينتمون للجهات العلمية والمؤسسات الفضائية وممثلوا بعض الدول الأرضية بالإضافة لبعض الشركات الاستثمارية التي شاركت بأموالها في إنشاء هذه المستوطنات الحديثة سعياً خلف ما قد تحمله تلك الكواكب من مواد يمكن استثمارها على الأرض.. وإن كان انتقال المستوطنات لتكون مسكناً لعموم البشر لا يبدو حلماً بعيد المنال لهذه الدرجة الآن..
أنت تقرأ
لهيب الأقحوان
Science Fictionرواية قصيرة.. تغوص فيها سيرين في عالمٍ لم تعرفه قبلها، وفي دخيلة نفسها بالقدر ذاته.. تستكشف ما يخبئه تلك الأرض، وهذه النفس، في وقتٍ متزامن.. تجربةٌ لابد أنها لن تعود بعدها كما كانت..