كنت فتي وقتها أساعد أبي في مزرعة صغيرة علي أطراف القرية وكان هذا الدرويش دائماً أراه في نفس التوقيت تقريباً كل يوم في وقت الظهيرة يسير علي أطراف تلك الترعة الصغيرة بعصاه وملابسه البسيطة ولحيته البيضاء وكان يبتسم لي دائماً وكنت اشعر بالفرحة عندما أراه إلي أن آتي ذلك اليوم الذي كنت فيه خارج سور المزرعة واقف بالقرب من الترعة ورأيته يأتي مقترباً ولما دني مني ابتسم وقال لي "أزيًك يا آدم" فاستغربت جداً كيف عرف اسمي ولكني قلت ربما يعرف أبي فأجبته "كويس يا عم" فربت علي كتفي وقال لي "سيدي ابراهيم بيسلم عليك" وابتسم ومضي في طريقه .
لم اكن اعلم من هو سيدي ابراهيم الذي قال عنه وظننت أنه أحد اقاربنا أو معارفنا يعرفه ذلك الدرويش .في اليوم التالي خرجت انتظره في نفس الميعاد وبالفعل لم يخلف ميعاده كعادته واقترب من وكرر نفس حديث الأمس بداية من السؤال عن حالي وأن سيدي ابراهيم يرسل السلام فسألته سيدي ابراهيم مين فضحك وأكمل طريقه .
تكرر الموقف في الأيام التالية إلي أن جاء يوم وأمسكت عصاه ونظرت له وقلت لن أتركك إن لم تقل لي من هو سيدي ابراهيم فقال "متعرفش سيدي ابراهيم ؟" فقلت له "لا" فاخرج من جيبه سبحة وقال لي "خد دي من سيدي ابراهيم" وضحك وأكمل طريقه .
بعدها بقليل وجدني أبي ممسك بالسبحة فنادي عليّ وقال ما هذه السبحة فأخبرته بالقصة كاملة وكان يتعجب من كل كلمة أقولها ويستمع بشغف وأخذ مني السبحة ونظر لها في تعجب وطلب مني أن أريه ذلك الدرويش في الغد .
انتظرنا الدرويش في الغد وكانت المرة الأولي التي لم يأتي فيها في نفس الميعاد وظللنا علي هذا الحال عدة أيام إلي أن طلب مني أبي أن أصف ذلك الدرويش فوصفته ووصفت ملابسه فتعجب أبي جداً وأخذني وذهب إلي بيت صديق له في القرية وبعد أن رحب بنا وتجاذبوا اطراف الحديث في ذكريات الطفولة قال له أبي "فاكر عم ابراهيم" فأجاب صديقه علي الفور "طبعاً وده حد ينساه الله يرحمه كان راجل بركة" فأخرج أبي السبحة وقال له "تعرف السبحة دي ؟" فقال "طبعاً دي سبحة عم ابراهيم الله يرحمه أنت جبتها منين؟" فحكي له أبي عن كل ما حدث وسط استغراب وعدم تصديق لما يحدث .
ما علمته أن عم ابراهيم الدرويش توفي منذ أكثر من عشرين عام وكان بالفعل يمشي كل يوم في هذا المكان وهذه سبحته ووصفي له مطابق تماماً بالرغم من أنه مات قبل أن أولد وذلك سر استغرابهم وقد كان رجلاً عادياً غير مشهور كي يعلم الجميع عنه أو أن يخبرني أحداً عنه .
لم يتوقف أبي عن التفكير حتي أخذني بعدها بأيام إلي قرية ذلك الرجل عم ابراهيم وذهبنا إلي منزل ابنه وجلس أبي معه ليحكي ما حدث فلم يستغرب الابن كما توقعنا وقال أن العديد شاهدوه ولكن قصة السبحة هذه جديدة ولم تحدث من قبل فشاهد السبحة وأكد أنها سبحة والده .استأذنه أبي أن يحتفظ بالسبحة فرحب الرجل ولم يمانع وقال "طالما هو اللي اختار يديهاله يبقي أنا مقدرش اكسرله كلمة" .
كان كل ما يحدث غريب بالفعل وانتشرت القصة في قريتنا وقرية عم ابراهيم وسألني الكثير عنها وكنت اجاوب بما حدث كل مرة .
البعض صدق والبعض اتهمني بالجنون وسبب لي هذا الموقف بعض القلق في حياتي ونظرات أصدقائي وتعاملهم والغيرة وبعض الأمور الصبيانية ولكني لم اكن أهتم واحتفظت بسبحة عم ابراهيم ولم تفارقني ولم يفارقني التفكير فيما شاهدته احقيقة أم خيال هل عم ابراهيم فعلاً من كان يسير أم أنها خدعة سخيفة أو شخص حصل علي سبحته وفعل هذا .
أفكار عديدة راودتني طوال السنين الماضية بين العقل وما وراء الطبيعة وكنت كلما ازددت علماً ازدادت حيرتي عما حدث .
سنوات طوال مرت علي هذا الحدث فسرت فيها علي أن ما حدث كان مزحة من شخص استغل الشبه ووجود السبحة معه إلي أن كنت يوماً أمر بوقت عصيب وفي داخلي بركان غضب لدرجة أني اخرجت السبحة التي لازمتني طوال السنين الماضية والقيتها علي الأرض ومشيت غاضباً والدموع تملأ عيني وجلست علي الأرض إلي أن وجدت أحدهم يربت علي كتفي فنظرت له وجدت رجلاً مسن يمسك بعصا وأعطاني السبحة وقال لي "حد يرمي سبحة سيدي ابراهيم" .
كدت أجن مما يحدث فكيف عرف أنها سبحة سيدي ابراهيم فأمسكت بالسبحة وقمت من علي الأرض لأسئله فلم أجده ووجدت السبحة فقط في يدي .
كانت هي اللحظة الفارقة في سنوات طوال استطعت فيها أن افسر قصة عم ابراهيم بتفسير يقنعني ولكن يبدو أن الموضوع أكبر من مجرد تفسير ويبدو أن عم ابراهيم أو سيدي ابراهيم لم يكتف بحيرة السنين الماضية وبعد أن اغلقت قصته من حياتي أراد أن يحييها مرة أخري ويحيي معها حيرتي وتساؤلاتي .
الغريب أن الموضوع لم ينتهي هنا وكان سيدي ابراهيم له معي حكايات تزداد غرابة ما بين اختفاؤه لسنوات وما بين علامات وإشارات ربما احكي بعضها والبعض الآخر سأخفيه .
المهم أن هذه الأحداث جعلت مني شخصين أحدهم عالم وأحدهم درويش .