طفولة موؤودة

279 62 17
                                    

«هيا يا حمزة! لقد دق المنبه، إنها الساعة السابعة صباحًا، هل استطعت النوم بهدوء رغم صوت القذائف؟»
ربتت أمي على كتفي بحنو تداويني بصوتها الرخيم الذي يهون علي أيامي المريرة.

«لقد اعتدت على هذه الأصوات المفزعة، هل فقدتِ بصرك من فراغ يا أماه؟ نحن لا نُقصف منذ عشية وضحاها، منذ أن ولدت لم أرَ هذا الحي هادئًا.»
دعكت بنيتي المنتفختين من أثر البكاء البارحة قهرًا، بعد أن تثآبت وهممت بالنهوض من فراشي الورقي المبسوط على الأرض تحت منضدة خشبية؛ تحسبًا لوقوع أي قذيفة علينا، بالقرب من النافذة المكسور زجاجها بعد أن اخترقتها رصاص القناصة.

كلها محاولات لكبح تمسكنا ببيوتنا، كله ترهيب جبان؛ لأنهم يعون تمامًا أن هذه الأرض ليست من حقهم، تتسآل لماذا لم أترك مكاني رغم الأنقاض حوله؟ لربما لأن الوطن غالٍ، لربما لإني صاحب حق!

وقفت أمام المرآة المشروخة كروحي الصبية، لامست أناملي الشعيرات التي اشتعلت شيبة من الخوف من غارات العدو على بيوت الأبرياء.

توجهت إلى المدرسة مترجلًا بين الحطام والركام، ستجد خليطًا من كل شيء هنا، زجاج نوافذ، خشب أبواب، طوب أسوار، عجل سيارات، نعيش في خرابة لا تليق سكنًا آدميًا، أمشي بصعوبة فوق الأسفلت المكسور، والأرصفة المهدومة، بسطت ذراعي كأني أحلق كالطير الحر، كي لا أفقد توازني أمام هذا الطريق غير الممهد، شارعنا الذي كنا نلعب فيه الغميضة بات هو المغمض!

انتابني شعور بالقهر وأنا أسير خارج الحي لأرى لافتة حي الشيخ جراح تكتب باللغة العبرية، كل ما أفكر فيه أين دعوات السلام المزيفة تلك؟ لماذا تذهب الدول العربية للتطبيع مع العدو ولم يأت أحد ليطبع معنا نحن؟ هل نحن نعادي الإنسانية؟!

لمحت رفاقي في المدرسة يخرجون من بيوتهم راكضين نحوي لنتقابل أمام اللافتة التي اعتدنا على كونها عربية، فوقها يرفرف علم إسرائيل النجس، الذي أود أن أفرقه أشلاءً كما فرقوا أشلاء أبي في حرب ألفين وأربعة عشر.

أقبلت عهد مبعثرة الشعر عابسة بملامح وجه مطموسة، يبدو أنها لم تنم من صوت الغارات البارحة، في يدها أخوها لؤي، الذي يصغرها بثلاثة أعوام، على ظهريهما حقيبة مدرسية مقطعة، أما أنا فقد حملت كيسًا بلاستيكًا أضع فيه دفاتري، كل هذا ينم على مدى الفقر الذي نعيش فيه جميعًا.

«صباح الخير يا عهد!»
قلت بصوت خفيض كي لا يهز صوتي الخراب الكامن داخلها.

«من أين سيأتي الخير يا حمزة؟!»
قَلَّبت عينيها، ثم زمت شفتيها، وتركت يد أخيها الذي أخذ ينظر إليّ بشفقة يطيِّب خاطري، ثم همس قائلًا:

«لا تضغط عليها؛ هي لم تنم البارحة وأصابتها نوبة هلع.»
أومأت له وصمتت راضخًا لرغبته، بينما هي انحنت تلقف بعض الحجارة.

طفولة موؤودة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن