كذبةٌ حُلوة.

52 2 4
                                    

لبنان - بيروت.
الجُمعة: ١. شوال. ١٤٤٢هـ.

- عاجل: وردنا أنباءٌ في هذه الساعة أن بضع طائراتٍ حربيةٍ اخترقت الغلاف الجوي لمدينة غزة مُحملةٍ بقذائف صاروخية، سنوافيكم بـ...

أغلقت التلفاز وأسندت ظهري للأريكة في ضيق، رفعت معصمي لعينيّ أخفي أحمرارهُما، ثُم غرقت في البُكاءٍ ثانية، أواه يا فلسطين، أواهُ على أحزانك، على بؤسك، على اللاعيد في أراضيك، أواهُ لريش الحمام المُغدق بالدماء، وغصنِ الزيتونِ المكسور...

الصرخاتُ في عزةُ تسمع هنا في بيروت يا فلسطين، تطرقُ أذنيّ وتملىءُ ولبي بألمٍ يجاري ألمكِ ولا يغلبه، ولازلتُ ابنتكِ، ابنة تُرابكِ العطِر قبل أن يلوث..

قبلًا كُنتُ طفلةً بلهاء تداعب أناملها أطراف السماء المُزرقة في سذاجة، أضاحكها واتخيلها تضحك لي فيشرق العالم في قلبي وأرهُ سلامًا مفروشًا بحقولِ الزيتون، وما كنت أدري أن تلك لوحة «كل شيء بخير» التي رسمتها أمي لي وصدقتُها، وبغير ما أرادت أمي أن تنبهني إليه وعيت فتاةً حمقاء ساذجة، بين يديها فُرشاةٌ غُدقت باللون الوردي لتُلطخ به مجال رؤيتها، ويُصبح العالم ورديًا، سعيدًا وتملأه البهجة، وأدرتُ ظهري لرائحة العفن المُشبعة في الأرجاء..

والآن، أنا أقِفُ هُنا في المُنتصف، أمامي حياةٌ لا أُدرك مدى أستحقاقيتها للعيش، وماضٍ مُدجن لا أكادُ أبصرُ منه شيئًا، فإني هُنا أرى العالم كما لم يُبصره ضريرٌ من قبل، ويُمكنني القول أن اللون الوردي قَد نفَذ، والطِلاء بدأ يقشعُ عن مجال رؤيتي وأرى غيهبًا مُجزِعًا مواربًا، وقبل أن أخطو للخلفِ هربًا كانت رائحة العفن قد سيطرت عليّ، وأدمنتُها، ورؤية ذلك الغيهب الأسود الذي يسبحُ في الأفقِ بلا هوادة غدا أمرًا حتميًا أستمتع بِه رفقة كوبٍ من القهوة الساخنةِ..

كانت في السابعة حينها، الفتاة الكُبرى بين ثلاثة أخوة، محمد، عبدالله وأنا وهج، أجل، أنا النور، أنا الضياء، وأنا المنار، لكن يؤسفني أن والديّ لم يوفقا في تسميتي، لأني هُنا شيءٌ بائس، كالسواد، كالدجن، كالإكفهرار...

نشأتُ في منزلٍ صغير شمال فلسطين كان منزلًا صغيرًا ضيقًا ولا يكاد يكفي أغراضنا القليلة، ننام في غرفةٍ واحدة مليئة بالملابس والأغراض، وبشكلٍ غريب لم يكن باستطاعة المرء ترتيبها وتنظيمها، في حين أن المطبخ النظيف يظل في حالة فوضى لضيقه، لكن يمكنني القول مُنا سُعداء جدًا، كانت أنفسنا واسعة نتذمر قليلًا ثم ننسى كل شيء حين يعرض برنامج رسوم المتحركة المحبب لدينا «هزيم الرعد» على قناتنا المفضلة «سبيستون» نصرخ، نقاتل معهم بحماسنا، ثم ننام هناك على الأرضية الصلبة، تحت ضوء التلفاز ونفوسنا تتمنى خوض حربٍ عوان كخاصة هزيم والبذل فيها ببسالة، وما كنا نعلم بأن الحرب تتجاوز ما تعرضه سبيستون حول شرير وبطل ينصر الخير بسرعة ثم تنتهي الحلقة بضحكاتِ تُبهجنا...

فأوّاه يا فلسطين!حيث تعيش القصص. اكتشف الآن