عندما تريك الحياة وجهها القاسي، تذيقك مرار ايامها، تعبث بك وتبرحك ضربا، فاعلم ان الله يحبك، عندما تحين تلك اللحظة وياتيك الموت فاستقبله برأس مرفوع وابتسامة منتصر فلقد هزمت الام الحياة وتركتها تبحث عن ضحية جديدة.
تجمع الجميع يفكرون بالآتي يتناقشون بصمت وحدها العيون هي التي تتكلم، تطرح الأسئلة وتجيب عنها، تزدحم بالكلمات،بالآهات، بالذكريات، من وسط هذا الزحام التقت عيناه بعينيه، وجد في عينيها اجابة على سؤاله، وجد عيناها تخبره ان اللقاء بعيد ان لم يكن مستحل، وجد الكلمات تخرج من لسانه بلا وعي
(ليه يا حبيبتي ما بينا دايما سفر، دة البعد ذنب كبير لا يغتفر، ليه يا حبيبتي ما بينا دايما بحور، اعدي بحر الاقي غيره اتحفر)
تجمعت الدموع في عيونها لا تقدر على النطق تعرف ان ما هم مقبلون عليه يعني الموت شملت بعيناها الجميع كل منهم سيترك قلبها ممزقا نظرت لريان ابتسم هو وقال:
سمعت نقطة مية جوة المحيط
بتقول لنقطة ماتنزليش في الغويط
اخاف عليكي م الغرق قلت انا
دة اللي يخاف م الوعد يبقا عبيطفي هذه اللحظة تعالت شهقاتها، لأول مرة، لأول مرة تخرج عن هدوئها حتى في حزنها كانت دائما هادئة، لم تنتحب او تصرخ يوما لم تتعالى شهقاتها يوما، لم تفقد السيطرة يوما، ولكنها اليوم وصلت الى اخر مراحل الاحتمال، لم تعد تستطيع، ستفقدهم ثانية، هل ستبقى وهم سيرحلون، هل ستبكيهم ثانية، هل ستتألم ثانيةً.
وقفوا ليتجمعوا نحوها ولكنها اوقفتهم باشارة من يدها تمنعهم ورحلت من امامهم بصمت، نظروا الى بعضهم، نطق ياسر بوهن فهو لم يتعافى كليا: سيبوها كلنا محاجين نجمع روحنا اللي اتبعثرت من كل اللي شفناه.
نظر إلى ريان وقال: انا جعان.
اجبه ريان بحنان: شوية والاكل هيجهز، جلس بجانبه ينظر اليه بهدوء وقال: انت مش هتروح معانا. صدم ياسر من حديث اخيه وقال : ازاي يعني؟ هنروح سوا مش هقعد هنا اعد اللي يروح منكوا واللي فاضل، لو هموت هموت معاكوا، ولو هعيش هعيش معاكوا، هي كدة خلصانة، ملهاش حل تاني.صمت ريان يعلم صدق حديث اخيه نعم لا مفر هو الموت او الحياة، من يخرج مجاهدا يتمنى النصر أو الشهادة، ولكن في حالتهم تلك فانه النصر فقط حتى لو كان بالشهادة.
سينهي موتهم المعركة لصالح الخير، ولكن التجمع صعب هم ليسوا الوحيدين، ليسوا هم فقط ان العدد يصل إلى مئة شخص غيرهم، مئة لا يعلمون عنهم شيئا، لا يعرفون مع اي فئة يقفون، وفي اي صف سيجدونهم.
في مكان اخر بعيدا عنهم تقف تلك الجميلة ترتعش بكل شعرة وخلية في جسدها، يقف امامها ينظر اليها بهدوء غريب، هدوء يرعبها، يجعلها تتمنا منه الصراخ او الاهانة، او حتى الضرب، ولكنه ينظر لها فقط، بهدوء، انفاسه منتظمة وملامحه ثابتة وعيون زجاجية لا تنبيء بشيء.
نطقت من خلال ارتجافها تتلعثم بكلماتها وتكاد تختنق بها: انت هتعمل فيا ايه؟
تكلم بهدوء البحر بعد عاصفة هوجاء: ولا حاجة انا مش هعمل حاجة.نظرت له باستغراب: ولا حاجة ازاي اومال انت جايبني هنا ليه.
قهقه بحدة وقال: لها مش انا اللي جبتك هو اللي جابك، نظرت حيث يشير فوجدته واقفاً كالجبل ينظر اليها بعينيه اللتان تشعان حناما ولكنهما بالرغم من حنانهما تشعان قوة، لم تعاشره يوما او يومان لتعرف ان خلف هذا الرجل الحنون المحب آخر قاس جبار لا يظهر الا لعدو طغى في عداوته او احد تجرأ ومس صغاره، فلها الويل والثبور انها الاثنان معا.فرطت في الماضي بكل شيء من اجل جمال زائل اصبحت تعاني لتحافظ عليه مع كل سنة تتقدمها في العمر، فرطت في الزوج الذي عاش معها سنوات عمره بلا كلل رضي بما تقدمه له بلا تذمر، باعت اطفالها الذين عوضوها عن عدم قدرتها على الانجاب، مالذي جعلها تفرط به، لم يكتفي فقط بالرضا بها برغم عيبها القاتل بل اصبح يذهب الى الملاجئ يبحث عن الاطفال جمعهم بعد مشقة جعلها اما بدون ان تعاني وجعل من نفسه ابا دون ان يجرحها ويشعرها بعيبها، قابلت ذلك كله بالهجر، بالقسوة، كسرت قلبه، مثلت عليه الحسرة على ابنائها، هربت منه تحت ذريعة البحث عنهم، مزقت هؤلاء الأطفال، دمرت حياتهم.
تقدم كريم منها بهدوء وقال لها اول حاجة هحرمك منها هي جمالك اللي بعتي كل حاجة علشانه، وعلى فكرة انا مش هخلي حد يلمسك، قبل ما آخد حقي منك اما بالنسبة لحق أولادي فهما بقو رجاله ووكلوا اخوهم الكبير ياخدلهم حقهم، فمبروك عليكي وصلة عذاب مستمرة لغاية ما نحس ان احنا اخدنا حقنا او الموت يرحمك، وصدقيني الموت اقربلك قوي من اننا نكتفي من عذابك.
عاد الاجتماع من جديد ولكنهم اكثر عددا انضم اليهم اللواء كمال، د. ياسين ود. مراد زياد نصار ويوسف عز الدين، وذلك الرجل الغامض القابع في آخر الغرفة يلبس على رأسه قبعة تخفي ملامح وجهه، يستمع الجميع باهتمام لكلام اللواء كمال، وينظرون لبعضهم بهدوء وقلق يستشعرون انه لا يخبرهم الا بالقشور، تحركت وطن نحو الماء تريد ان تشرب، رفع الرجل الغامض رأسه بتلقائية نظرت في عينيه بصدمة ، صاحبها في نفس الوقت صرخة متألمة فزعة من عاصم الذي كان آخر ما نطق به سراب، ثم سقط أرضا يتدفق الدم من انفه وفمه، يدمي قلوب الجميع بألمه، يركض ابيه ولاء وياسين ومراد، الذي رن هاتفه في تلك اللحظة يعلن عن مكالمة ستقلب المعادلة،لم تصدر منه سوى كلمة واحدة: ايه؟ ازاي؟ انت متأكد؟
من هو الرجل الغامض؟
ما الذي حصل لعاصم؟
ما هو سر المكالمة الغامضة؟
كيف سيكون الرحيل القادم؟