البارت الجديد هينزل يوم الجمعة 💜
تمددت على مضجعها ونظرها شاخص على سقف الغرفة، هذا الجانب الجديد الذي رأته منه اليوم غيّر أفكارها تمامًا، لن تنكر أنها كان من الممكن أن توافق وتتخذه سبيلًا للهرب من ذلك المستنقع حولها، ولكن قلبها ارتاب منه بعد تلك المواجهة بينهما. دلّكت رأسها علها تبعده عنها، وأغمضت عينيها ذاهبة إلى حبيب قلبها الأوحد، ذهبت إلى لقائهما الأول، كان ذلك في أول يوم لها في الجامعة، كانت تائهة، نالت قدرًا لا بأس به من السخرية بسبب هيئتها الخائفة كعصفور سقط سهوًا في الماء، فظهر هو فجأة لينتشلها من الماء. كان حنونًا رقيقًا، له أثرٌ كأثر حبات الندى في فصل الربيع عند ملامستها للأزهار، استطاع بكل بساطة أن يبعد القلق عن قلبها، ساعدها ووضعها على أول طريق الثقة بالنفس، طريق وعدها أن يكمله معها حتى تحقق كل أحلامها. ولكن.. أين هو الآن؟ لماذا تركها في منتصف الطريق؟ لماذا أضحت أحلامها هباء منثورًا فجأة؟
شهقت شهقة عنيفة وتنفسها يزداد صعوبة، هل الفراق ضروري لهذه الدرجة؟
مرّ دهر على رحيله ومازالت واقفة في نفس المحطة، لم تستطع إكمال الطريق وحدها بعده، تركها في منتصفه إنسانة بقليل من الثقة وبلا أي أحلام، مع الكثير والكثير من الذكريات، وقلب مغطى بالشقاء.
"لا أقدر أنساك ولا ليّ غنا... أنا أتوب عن حبك أنا؟"
***
انتشله صوتًا جهوريًا من أفكاره، نظر إلى ذلك الشخص الذي احتل مكتبه وهو يقول بصوتٍ خفيض مرهق: أدخل يا علي.
قال بمرح: ما أنا دخلت، مالك يا أبو الصحاب في أيه؟
- مفيش.
- أنت لسه بتفكر في الموضوع اللي اتكلمنا فيه امبارح؟
بنظرات تائهة أخبره: مش عارف أعمل أيه، حاولت أمهد لبابا الموضوع رفض حتى الكلام فيه، خايف اسيبها الاقي إني اتدبست في سوزان.
ضاحكًا: من ناحية هتدبس فأنت هتدبس فعلًا.
تنهد قائلًا: أعمل أيه؟
- أنا من رأيي تقوم تروح للست نجاة اللي كنت عندها امبارح، مش قالت إنها عايزاك في موضوع مهم؟
- شايف كده؟
- مش هتخسر حاجة روح اسمع منها، أنت خلصت شغل؟
- أيوه، تعالى وصلني بقى عشان عربيتي في الصيانة.
- يالا بينا.
ظل هو في سيارته بينما صعد حمزة إليها، تأمل المكان الذي يجلس فيه بسيارته الفارهة إصدار السنة والتي تعادل وحدها دخل كل القاطنين في هذه المنقطة، تأمل الأطفال القذرة ملابسهم ووجوههم وهم يلعبون بكل استمتاع في الشارع ويقذف كل واحد منهم الآخر بكل ما قَبُحَ ورَذُلَ من الألفاظ. والنساء حكاية أخرى، تجلس كل منهنّ أمام بيتها تتأمل كل شبر في المكان بتفحص شديد وتركيز أعمق من رجل يعمل في المخابرات، وبالطبع لم تخفَ عليه نظراتهنّ إليه حين وصل إلى المنطقة، وخاصة نظرات الرجال الحاسدة. نظر إلى المرآة الأمامية لتقابله ملامحه السمراء المصرية الأصيلة وعينيه الداكنة، مع لحيته التي تفنن في تحديدها، ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يتذكر أنه ذات يوم كان مكانهم، يمتلك نفس نظرات التمني والحسد لكل غريب يأتي إلى المنطقة.
انتفض فجأة على رؤية فتاة تضع شيئًا ما على سيارته بكل قوتها، نزل من السيارة ليطمئن عليها، كانت تعطيه ظهرها منشغلة عن وجوده بالرد على هاتفها، هتف لينبهها: يا آنسه بعد إذنك.
ولكن صوتها العالي صمّ أذنيه، كانت تهتف هي الأخرى بهلع: يا بت، أنتِ يا بت اقفي في حته فيها شبكة، يخربيت شكلك فهميني فيه ايه، ده أنا هموتك لما اجي اصبري عليّ!
وضربت بيدها على مقدمة السيارة بعنفٍ ضربة ارتد صداها في قلبه، فوقف أمامها وقبل أن ينطق نظرت إليه بحنق وهي تقول: عايز أيه أنت التاني.
نظر إلى ملامحها جيدًا متعجبًا من خروج تلك الكلمات الجهورية من تلك الملامح الهادئة، قال بعصبية: عايزك تاخدي بعضك وتروحي تقفي بعيد عن عربيتي لو مش هيضايقك يعني.
أخذت أشيائها بعصبية وهي تقول: ماشي يا حيلتها.
وقف أمامها ذاهلًا غير قادر على إبداء أي رد فعل فقط جلس بداخل سيارته مرة أخرى وهو يسب شهامته التي أوجدته هنا الآن.
بينما في الأعلى في شقة نجاة، جلس حمزة بأريحية على الأريكة التي استقبلت دموعها في المرة السابقة في انتظار نجاة، أطلت عليه تلك السيدة البشوشة بكوبين من الشاي وجلست بجانبه وهي تنظر إليه بودٍ، سألته: عامل أيه يا حبيبي؟
بابتسامة: الحمدلله.
- طبعًا أنت مستغرب أنا عايزاك ليه، أنا الأول يعني تقدر تقول كده اللي مربية رغد، كنت شغاله عندهم في الفيلا بس الله يسامحه سامح بيه طردنا، لكن رغد بنت الأصول مسابتناش لحظة لا أنا ولا أحمد جوزي ربنا يبارك فيها، هتستغرب لما تعرف إني عايزاك عشان أوصيك عليها، رغد إنسانة جميلة جدًا شكلًا ومضمونًا وكل حاجة، مش هقولك رقيقة ونسمة وأجملّها أوي لأن هي كانت مجننانا، بس هي اتغيرت، اللي أنت بتتعامل معاها ديه مش رغد ديه صورة مشوهة منها، مش بتكون على طبيعتها غير هنا معانا حتى مع أهلها، أكسبها هتكسب والله، ساعدها ترجع رغد بتاعت زمان، متكونش زيهم وتسيبها تغرق في اللي هي فيه أكتر. كانت بتحب حد هو اللي وصلها لكده، اكسبها وخليها تحبك، خليها تشوف الجانب اللي شيفاه منك ده. مش هطول عليك هسيبك تكتشفها بنفسك.
كان حمزة شاردًا في كلامها وتتجسد أمامه صورتها الباكية وهي تجلس بجانبه في القطار، شعر وكأنه يغرق في بحر من دموعها، لن ينكر أنه وقع ضحية غضبه الأعمى مرة أخرى وجنى عليها المرة السابقة، ولكن كانت تلك السمة المشتركة بينهما لها السيادة، وهي التشوه. ويبدو أنه لن يُشفى أحدهما دون الآخر...
رحل والتفكير يأكل عقله، حتى أمسك هاتفه وقرر أخيرًا محادثتها، سمع صوتها من الجانب الآخر وبجانبها موسيقى هادئة: عايز أيه؟
- عايز أقابلك.
ببساطة فاجأته قالت: هبعتلك اللوكيشين.
طلب من صديقه بخجل: هو أنا لو قولتلك وصلني في مكان تاني هتوصلني يا صاحبي صح؟
قال بمضضٍ: صح.
أوصله المكان المطلوب بالفعل ولكن قبل أن يشكره حمزة حتى كان انطلق بسيارته سريعًا فوقف حمزة يضحك عليه قليلًا، أو ربما كان يؤخر ذلك اللقاء ليستعد له أكثر. دخل المكان بخطوات متمهلة وهو ينظر في الأرجاء حتى وجدها، كانت منهمكة في رسم شيء ما، لم يستطع إلا أن يتأملها بدقة، حين شعرت باقتراب شخص منها رفعت رأسها ببطء لتواجهه بعينيها وملامحها الهادئة الناعسة، جلس أمامها وفي سابقة كانت الأولى من نوعها ابتسمت له مُرحبة، بادلها الابتسامة قائلًا: عامله ايه؟
- ما تدخل في الموضوع على طول.
قهقه قائلًا: تفتكري عايزك ليه؟
قالت بتفكير: أعتقد عايز تعتذر.
مبتسمًا: ذكائك خانك للأسف، عايزك في حاجة أهم، أنا شايف بما إنك مش عارفه ترفضي ولا أنا الحقيقة، ده غير إنك أفضل من كل الفرص، يعني بالبلدية كده أحسن الوحشين.
رفعت أحد حاجبيها باستهجانٍ، فضحك قائلًا: مش هخذلك، أنا آسف.
- مفيش مشكلة.
- أيه رأيك نتفق على حاجة، أحنا هنكمل الجوزاة ديه، قدام الناس وعلى الورق، أحنا هنستغل الفرصة ديه عشان نهرب من كل حاجة.
نظرت بعيدًا: أنا موافقة، محتاجة أهرب فعلًا.
نظر إلى عينيها الشاردة وهو يقول: اتفقنا.
- أنا مضطرة أمشي.
- ممكن اوصلك؟
- البيت قريب، بتمشى عادي.
- هتشمى معاكِ.
أومأت له إيجابًا، ثمّ سارا معًا بصمتٍ يغلفهما سكون الليل وحفيف الأشجار، وكل منهما منشغل في عالمه، هي تتمنى لو يكون هذا الجانب الذي رأته منه الآن حقيقي وألا تكون أوقعت نفسها فيما هو أسوأ. وهو كانت أفكاره مشتتة لا يدرى على أيِّ شطٍ يرسي، أأقدم على هذه الخطوة ليساعدها أم لأنه هو من يحتاج إلى المساعدة؟ بالتأكيد ليساعد نفسه؛ فهي مازالت غريبة عنه، ولكن أيشعر أنها غريبة بالفعل؟ نظر إليها يتأمل ملامحها أكثر عن قرب، وشعرها الثائر يتطاير من حولها، أهي مظلومة بالفعل في تلك القصة التي كُتِبَتْ لها؟
مرّت الأيام التي تفصلهما عن الزفاف سريعًا لتجد نفسها واقفة أمام المرآة تتأمل نفسها في ذلك الفستان الأبيض، فستان أحلامها الذي كثيرًا ما تمنت أن ترتديه، ولكن من أجل من تعشق، لن تنكر أنها الآن تشعر أنها تخونه رغم أنه هو من فرّ خائنًا عهد الحب بينهما، سرق كيانها وهرب بعيدًا بلا رجعة، ولا أعذار، فقط اختفى في مهب الريح كأنه لم يكن، تركها بلا روح ولا قلب، أضحت في غيابه مجرد ألة لا تسمن ولا تغني. شعرت بحركة خلفها، استدارت لتجد حمزة، ذلك الغريب المجهول الذي ظهر في طريقها فجأة، هو شخص عجيب وخليط لا تفهمه، تارة يكون حنونًا وتارة يكون شديد الغضب، لن تنكر أن الجانب الحنون الذي رأته منه حين ذهبت إلى عيادته جذبها كثيرًا، تُرى لو كان هو صاحب الظهور الأول في حياتها هل كانت لتحبه؟
اقترب منها بخطوات متمهلة وهو يتأملها، ويراها كأنثى أنيقة فائقة الجمال لأول مرة منذ تعرَّف عليها، أخذ نفسًا عميقًا وهو يحاول أن يبعد عينيه عنها، وعن جمالها الخاطف قبل أن يقول: مستعدة؟
أومأت برأسها إيجابًا وهي تُوقف عقلها تمامًا الآن وقد انتهى دوره قبل أن يشرعا في تنفيذ مخططهما المزعوم، الزفاف كان مبهرًا، لو كان وضعهما مختلفًا لكانا أسعد ما يكون، انتهى الزفاف وانتهى فصلًا جديدًا من حياتهما ليبدأ آخر...
في جانب آخر من قاعة الزفاف بفستان وردي رقيق كانت تقف في صمتٍ مراقبة للزفاف وفي عينيها نظرات حزينة، وكأن أحلامها اصطدمت على صخرة الواقع بعنفٍ شديد فجأة، أصدقائها دائمًا يطلقون عليها لقب الحالمة، فهي تتخيل أشياء لا وجود لها في الواقع، أولهم ذلك الزواج الذي يُبنى على علاقة حب متينة الأساس، مملوءة بكلمات العشق وأفعاله الرومانسية، من زهور ودمى محشوة، وبالطبع لن تخلو من بعض المشاحنات الصغيرة، ولكن أن تتم زيجة بهذه السرعة دون تعارف حتى لم يرد في أحلامها، ولذلك تشعر بالشفقة والحزن عليهما.
تنهدت واتّجهت لتجلس قليلًا في الخارج في الحديقة لتتنسم عبير الطبيعة، حيث المكان الوحيد الذي تشعر فيه بالراحة، وفي أثناء جلوسها على أحد المقاعد شعرت به يهتز فجأة، فانتفضت من ذلك الحلم الجديد الذي كانت على وشك الانغماس فيه، نظرت بجانبها لترى رجل رث الهيئة، فواح الرائحة، يتصبب عرقًا، وقد ساعد ذلك في جعل عضلاته البارزة تلمع بشدة، وكذلك شعره الذي يتخلله بيديه وهو يحني رأسه إلى أسفل يحاول التقاط أنفاسه بعدما شرب زجاجة ماء دفعة واحدة والقاها على الأرض.
ظلت تتأمله بتعجب فاغرة الفم حتى نظر إليها، تأملها وكأنه يشاهد أحد عجائب الدنيا السبع، غير مصدق أن تلك الكتلة من الجمال تجلس بجانبه، رغم أن عينيها عسلية وشعرها طويل لونه بني وملامحها تكاد تكون عادية متعارف عليها إلا أنه انبهر من تجانس ملامحها، قال متأثرًا: أنا فعلًا أول مرة في حياتي أشوف قمر بالنهار كده.
نظرت إليه بخجل وقد توردت وجنتيها قليلًا، فأكمل: لامؤاخذه عالإزعاج.
حاولت الابتسام وهي تقول: مفيش مشكلة.
سألته: أنت بتشتغل هنا؟
نظر إلى ملابسه وملابسها سريعًا بنظرة خاطفة متهكمة وهو يقول: لأ كنت بحضر فرح صاحبي.
قالت بحرج: أنا آسفه مقصدش حاجة.
- ولا تقصدي.
تنهدت وهي تنظر أمامها، تلك الخانة التي تُفرض عليها بسبب مكانتها الاجتماعية تكرهها بشدة، في كثير من الأوقات تحب أن تتعامل مع الناس كما تملي عليها نفسها دون تفكير، سألته فجأة: هو ازاي ممكن اتنين يتجوزوا بعض من غير حب؟ من غير أي سابق معرفة؟
بتهكم: والله أحنا الواحد مننا لما يلاقي اللي توافق على ظروفه مش بيدور على الكلام الفارغ ده، فيه حاجات تانية أهم.
بحيرة: أنتم مين؟
وصلها صوتًا جهوريًا غليظًا ينادي: يالا يا أبو الأنوار.
وقف وهو يشير إلى ملابسه: أحنا.
ثم ابتعد عنها خطوات قليلة، قالت إليه: أنا حبيبة.
استدار إليها وهو يبتسم ابتسامة غريبة تحمل الكثير من المعاني: نور.
ثمّ رحل بخطوات سريعة بينما ظلت هي واقفة مكانها تتأمل رحيله قبل أن تتجه إلى الداخل. اصطدمت بأحدٍ في طريقها، نظرت إليه وهي تعتذر لتجده علي، لتشعر أن أنفاسها تُخطف من صدرها لا إراديًا، والكلمات تضل طريقها على لسانها، غادر دون أن يرد عليها فسألته: رايح فين يا علي؟
- فيه حالة ضرورية لازم اروحلها.
- ربنا معاك.
ولكنه رحل سريعًا قبل أن يسمعها، تنهدت هي بقلة حيلة، دائمًا ما كانت رؤيته مصدر سعادة لها، فهي كانت أسيرة ذلك الانجذاب الروتيني بين البنت وصديق أخيها الذي يعتبرها أخته الصغرى، فما كان منها إلا أن راقبته وتتبعت أخباره بصمت، وبكثيرٍ من الحزن. دخلت إلى الزفاف غير منتبهة إلى تلك النظرات التي تتابعها، والتي لطالما كانت تفعل ذلك.
وصل علي إلى المشفى بسرعة البرق، توجه إلى الغرفة المخصصة بالعمليات، أنهى الجراحة وخرج ليُطمئن أهل المريض وكانت الصاعقة، حيث وجد نفسه في مواجهة تلك الملامح المريحة الهادئة مرة أخرى، وكأنها شعرت أنها كانت تحتل أحلامه بشكل غريب، ولكنها هذه المرة باكية فاقدة كل معنى للقوة، شعر بقلبه يتعاطف معها كما لم يفعل مع مريض من قبل، أخبرها بنبرة حنونة مطمئنة: متقلقيش، هو هيكون كويس.
نظرت إليه بتردد، ولكنها سألته: ينفع أشوفه؟
- دلوقتي صعب، أحنا هننقله العناية ولما يكون كويس هسمحلك تشوفيه.
أومأت له دون رد، وتركها راحلًا إلى مكتبه.
قبل أن ينتهي اليوم تفاجأ بعاصفة هوجاء تقتحم مكتبه، وملامحها الهادئة باتت غاضبة بشكلٍ مخيف، صرخت فيه وقد رجعت لطبيعتها: أنت فاكر نفسك مين عشان تعمل كده؟
سألها بهدوء: والدك حصله حاجة؟
- متستهبلش أنت فاهمني كويس.
أشار لها على المقعد الموضوع أمام مكتبه وهو يقول: ممكن تقعدي طيب وتفهميني؟
- من غير ما أقعد، أنت فاكر نفسك أيه؟ ولا فاكرني أيه عشان أقبل حاجة زي ديه؟!
- الموضوع مش مستاهل رد فعلك ده، ده شيء طبيعي بيحصل مع أغلب الناس.
- ولو، أنت عشان معاك عربية آخر موديل وشغال في مستشفى زي ديه هتتكبر على خلق الله كده.
ابتسم ابتسامة مستفزة وهو يقول: أنتِ عارفه تكاليف العملية قد أيه؟ أو تكاليف ليلة واحدة هنا بتكلف قد أيه؟
- أيه يعني أنت فاكرنا عشان على قد حالنا هنقبل العوض؟
أطرق مفكرًا ثم أخبرها: متقبليش، أنا عندي حل.
نظرت إليه بترقب فأكمل وهو يعطيها الفاتورة: اعتبريهم سلف، وتقدري تقسطيهم على المدة اللي أنتِ عايزاها.
- موافقة.
ثمّ خرجت من غرفة مكتبه دون أن تزيد ورأسها يدور فيه العديد من الأفكار، أو لنقل الهموم والتي من كثرتها تشعر أنها احنت ظهرها، تتمنى لو تعود إلى حياتها القديمة، حيث لا شيء سوى اللعب طوال اليوم بين الحقول، مع رفيقها الذي كان يشاركها كل شيء، والذي وللأسف نست اسمه من كثرة المسؤوليات التي وقعت فيها، ولكنها مازالت تتذكر ملامحه جيدًا، تتذكر صوت ضحكته الذي كانت تستمتع به مع خرير الماء وحفيف الأشجار، وهما يلعبان سويًا في وضح النهار تحت ضوء الشمس التي كانت شاهدة على كل ذكرياتهما، نظرت إلى أختيها النائمتين على المقعد أمام غرفة والدهما المريض وهي تتنهد بحزن.
بينما في الزفاف لم يكن الحال مستقرًا كثيرًا، كان المكان مملوءًا بالكثير من المشاعر، من حقد وتوتر وحزن مع القليل فقط من الراحة. على طاولة في ركن بعيد قليلًا، كان يجلس عليها رجل يدل كل جزء فيه على الثراء الفاحش، ويكمل تلك اللوحة الرجال الواقفين خلفه لحمايته، يجلس بجانبه إبراهيم وسامح يحاولان إرضاءه بشتى الطرق، قال بابتسامة باردة: أنا سعيد بالخطوة ديه، وبالتعاون اللي حصل بينكم ده.
قال إبراهيم: كله بفضلك يا حمدان باشا.
- أنا معملتش حاجة، أنتم اللي أذكياء وبتخططوا صح.
رد سامح: ولسه التخطيط الصح هيبان أكتر في العملية الجايه.
وقف وهو يقول: الميعاد قرب وهنشوف، استأذن أنا بقى.
- بالسلامة يا باشا نورتنا.
وبعدما رحل نظر كلًّ منهما إلى الآخر في راحة بعد اجتيازهما هذا الاختبار.
انتهى الزفاف وبعد عناق جاف بين رغد ووالدتها استقل حمزة ورغد سيارتهما التي أصر على قيادتها بنفسه، كان يتجه إلى طريق بيتهما ولكنه سمع صوتها الذي لم يسمعه منذ بداية اليوم: يالا نروح اسكندرية.
- بس...
نظرت إلى عينيه: بما إننا أحنا الاتنين بنهرب هكون صريحة معاك عشان تساعدني، سامح أنا واثقة إنه هيكون أول انسان موجود من الصبح، وأنا مش حاسه إني عايزه أشوفه تاني أصلًا.
بادلها النظر وهو يقول: أنا موافق.
لتكافئه بأفضل جائزة من الممكن أن يحصل عليها، وهي ابتسامة واسعة سعيدة، هي جميلة ليست خارقة الجمال ولكنها ابتسامتها قد تفعل المعجزات.
بعد تشاور بينهما وضعت الأغاني التي يفضلانها على مشغل الصوت وانطلق في الطريق وهي تشعر أنها في كل خطوة يتساقط منها بعض ما يثقل قلبها قبل هذه اللحظة، تساقط كل شيء رويدًا رويدًا إلا شيئًا واحدًا، هو.. بقى جالسًا أعلى حافة قلبها متمسكًا به بشدة يأبى الرحيل، ولكنه بالتأكيد سيتركها، ستتوب يومًا ما عنه..
"أنا أتوب عن حبك أنا؟"
وقفت أمام البحر وهي تحاول أن تُلقي فيه احساسها بالذنب لفكرة أنها تخونه، فهو من خان عهد الحب بينهما ورحل، اقترب منها حمزة وهو يسألها: شكلك بتحبي البحر؟
قالت بشغف وعينيها تلمعان: أوي.
قالت ضاحكة: لو هشحت كده محبش إلا هو.
ثم أكملت: لما بحس إن كل حاجة بتهجم عليّ بهرب ليه، لو توهت منك في يوم أعرف إني هنا.
أمسك كفها وهو يشد على حروفه: أوعدك إنك مش هتحتاجي تهربي له بعد كده.
عينيه مع صوت الأمواج في هذه اللحظة معًا أفضل ما يمكن أن يراه ويشعر به قلبها، تلك الراحة والاطمئنان، بدون أي خوف أو حزن هما أكثر ما تحتاجه لتحيا، أبعدت عينيها بعيدًا عنه وهي تبتسم ناظرة إلى البحر..
***
في مكان آخر جلست على الطريق باكية تشعر أنها فقدت كل قواها فجأة، حتى العمل الوحيد الذي كانت تستقوى به فقدته، من أين ستطعم صغارها؟ علاج والدها؟ الدروس والمدرسة؟ لماذا هي وحيدة إلى هذا الحد؟ كيف يمكن أن تبث شكوى قلبها المكلوم؟ شهقت بأعلى صوتها وهي تضع يدها على قلبها الذي ازدادت دقاته، لماذا تركتها والدتها وحيدة وسط كل هذه المشكلات؟ لماذا لا تحصل على حياة هانئة مثل الكثيرات في مثل سنها، صرخت بأعلى صوتها: يا رب.
كيف من الممكن أن تبحث عن عمل وهي بلا أي مؤهل أو خبرات، هي لا تسوى أيَّ شيءٍ، تكره ذلك الاحساس الذي يحتلها دائمًا، أنها أٌقل من كل الناس، بل هي أقل من القليل بكثير، حين تتذمر إحدى أختيها تبثهما ببعض الكلمات على شاكلة أننا يجب أن نحمد الله على كل النعم التي وهبنا بها من صحة وعافية وووو، ولكن تلك الكلمات لم تعد تؤثر فيها أكثر، تحاول دائمًا أن تتحايل على الحياة وتأكل حقها منها غصبًا ولكنها استنفدت كل رصيد تحملها، نظرت إلى تلك السياج في الجانب الآخر على الكورنيش، شكلها بَدى مُغريًا للمرة الأولى رغم أنها لم تكن تلاحظها من قبل، تحركت ناحيتها بخطواتٍ مغيبة، وقفت أمامها وهي تتمسك بها ودموعها تزداد انهمارًا، حتى أتخذت قرارها أخيرًا...
أنت تقرأ
رواية رغد
Roman d'amourأنا أتوب عن حبك أنا؟ الفراق والحب وجهان لعملة واحدة ولولا وجود أحدهما لما وجد الآخر، مادمت تحب تأكد أنك في النهاية ستنظر حولك ولن تجد سوى الظلام، فغيابة جُبه ستبتلعك مهما كثرت الفراشات حولك وسيهضم الظلام قلبك بكل قسوة، ثم سيترك المتبقي منك يذوب في م...