الفصل الثالث

151 12 2
                                    


كانت السياج بالنسبة إليها في هذه اللحظة هي المخرج الوحيد، هي باب الأمل الوحيد المُتبقي لديها، سارت ناحيتها بخطواتٍ مغيبة والراحة تتسلل إلى قلبها رويدًا، تمسكت بها قليلًا بتردد قبل أن تقفز عاليًا استعدادًا لتخطيها، لتُغرق كل همومها في المياه، ولكنها شعرت على حين غرة منها بيدين كبيرتين تحيطان خصرها، حاولت مقاومتهما ولكنه كان أقوى منها، استسلمت إليه وهي تشعر به يحيطها بذراعيه ويتفحصها جيدًا، نظرت إليه وهي تحاول التقاط أنفاسها، تحاول أن تبتعد عنه إلا أن كل قواها تخلت عنها في هذه اللحظة، حمدت الله أنه كان هو رغم كرهها الشديد له، سألته وكل ما فيها يأن من الألم ودموعها مازالت تنهمر بلا توقف: ليه؟
أمسكها من كتفيها يحاول أن يمدها ببعض القوة لتستطيع الوقوف إلا أنها تهاوت بين يديه في لمح البصر فما كان منه إلا أن حملها بين ذراعيه متجهًا إلى سيارته.
كان خارجًا من عمله فوجدها تخرج من المستشفى وهي تسير هائمةً على وجهها ويظهر الوهن جليًا عليها ودموعها كانت خير دليل على ذلك، شيء خفي بداخله حثه على مراقبتها، تركها تفرغ كل طاقتها وهي تصرخ في الطريق غير عابئة بنظرات الناس من حولها، ولكن كان من الضروري أن يتحرك حين شعر أنها على وشك الإقدام على شيء متهور، نظر إليها وهي ممددة بجانبه ثم تنهد وهو ينطلق بسيارته، وشيء بداخله يخبره أن هذا الموقف من ذاكرته، أنه عاش مثله من قبل ولكنه حاول تجاهل ذلك حتى يطمئن عليها..
***
صباح اليوم التالي، كان يجلس في شرفة تلك الشقة المطلة على البحر وهو غارق بين أمواجه، أو ربما أفكاره التي لا حصر لها، والتي كلما انخرط في أحدها فتحت عليه آخر وهكذا إلى ما لا نهاية، تلك الخطوة التي أتخذها جنونية لن ينكر، لا يتزوج أي شخص بتلك الطريقة، خاصة أنه لم يعرفها جيدًّا بعد. سمع صوت خطوات تقترب منه، التفت ليراها قادمة إليه، يبدو أنها استيقظت لتوها، ترتدي منامة غريبة الشكل والألوان، شعرها الثائر يتطاير حول وجهها كأشعة شمس رسمتها طفلة صغيرة بعفوية، تمسك في إحدى يديها ثمرة تفاح وفي الأخرى كوب ماء، حسنًا بداية عشوائية مبشرة لشخص يعتبر النظام أسلوب حياة، حاول كتم ضحكة كادت تفلت منه، جلست أمامه وقالت بجدية وهي تقضم التفاحة: أنا عايزه أقص شعري.
أخبرها: هو لازم يتقص بصراحة.
نظرت إليه ولم تفهم تلميحه الساخر، فسألته: طيب شوية وهروح الكوافير تعرف مكان قريب؟
- أكيد معرفش، بس أيه المناسبة يعني؟
- حاسه إني عايزه أغير حاجة فيّ عشان أحس إني بدأت من جديد بجد.
وقف وأمسك خصلة من شعرها وهو يقول ضاحكًا: اختيار موفق بصراحة، ده مش منظر يتشاف الصبح خالص يعني.
نظرت إليه بغضب وهي تقول: هو أنت بتتريق على شعري؟
دخل إلى الشقة وهو يقول وقد علت ضحكته: لأ خالص.
سألته بجدية: حمزة، هو أحنا ينفع نعيش هنا على طول؟
- صعب أنقل شغلي هنا.
دخل المطبخ يعد شيئًا يأكله، وقفت بجانبه وهي تسأل: أنت دكتور أيه؟
- أطفال.
بصدمة: والله بجد؟ مش شبهك خالص.
- والله أنتِ بألوانك العجيبة ديه محدش يصدق إنك في فنون.
قالت بثقة وهي تضع يدها على خصرها: ده يا بابا فن مش أي حد يفهمه.
قال مبتسمًا: أنتِ في سنة كام؟
- أولى، بس بعيدها للمرة التالتة.
- واضح تعلقك بالفن.
ابتسمت وخرجت من المطبخ وهي تقول: طيب اعملي ساندوتش معاك بقى.
***
كان يقف في مسافة بعيدة عنها قليلًا وهو يتأملها مليًا، تجلس كفراشة رقيقة بين الزهور، لم يرى أنثى في نعومتها من قبل، ربما الوحيدة التي رآها كانت ابتسام جارته، تلك المرأة التي تراه فتى أحلامها الأوسم على الإطلاق، فيراها تنتظره يوميًا في شرفتها وهي ترتدي وشاحًا يظهر أكثر مما يخفي من شعرها، مع أحمر الشفاه القاتم الذي تظن أنها بذلك تغريه به، آخر غيره كان سينتهز هذه الفرصة، فهي فاتنة لن ينكر، وترضى بظروفه التي تعرفها جيدًا بحكم الجيرة، ولكنه يطمح فيما هو أكثر من ذلك، أبعد ابتسام عن باله الآن وهو يفكر فيمن جعلت روحه تبتسم تخيلًا للقادم، أخذ نفسًا عميقًا وهو يقترب منها، جلس بجانبها، نظرت إليه كما المرة السابقة، أدارت وجهها بعيدًا عنه ولكن حين تذكرت ملامحه نظرت إليه مرة أخرى بصدمة، قالت ضاحكة: أيه يا أبو الأنوار أحنا طلعنا زمايل ولا أيه؟
مبتسمًا: تقريبًا كده، اتفاجأت لما شوفتك برضو.
- أمال أيه جو أحنا وأنتم بتاع المرة اللي فاتت ده؟
نظر أمامه إلى الأرض وهو يقول: ديه حقيقة محدش يقدر ينكرها، أنا من عالم وأنتِ من عالم تاني.
ثم نظر عميقًا إلى عينيها وهو يقول مبتسمًا: ممكن نتعرف المرة ديه بجد؟ أنا نور.
ثمّ مدّ يده إليها، نظرت إلى يده قليلًا بتردد قبل أن تسلمه كفها، ليحتضنه بعمق وهو يمرر إبهامه على طول يدها، شعرت بالتوتر لحركته المفاجأة فقالت بنبرة متلعثمة: وأنا حبيبة.
فأبعدت يدها سريعًا عنه، سألها: أنتِ في تجارة برضو؟
أومأت برأسها وهي مازالت تشعر بالتوتر، فسألها مرة أخرى: في سنة كام؟
- تالتة، وأنت؟
- رابعة، بس الكلية مش شكلك خالص، واحدة في رقتك كنت متوقع تكون في فنون، أو أي حاجة جميلة ليها علاقة بالفن، معتقدش فيه حاجة ممكن تليق بيكِ غيره.
التفت تنظر إليه بصدمة وهي تقول: أنت عرفت ازاي؟
قال بنبرة عميقة: حسيت.
نظرت إليه وهي تشعر بتوترها يزداد، فقامت من مكانها بحركة سريعة قائلة: أنا مضطرة أمشي دلوقتي.
وقف وهو يقول بلهفة: هشوفك تاني؟
ابتسمت: أكيد.
قال بصوت مرتفع نظرًا لابتعادها: أنا مش بحضر بس هاجي مخصوص عشانك.
لتبتسم ابتسامة واسعة في أثناء سيرها، بينما بقى هو جالسًا مكانه يتأمل رحيلها وهو يمرر يده في شعره مبتسمًا بزهو...
***
خرجت من مركز التجميل لتجده واقفًا ينتظرها على الجانب الآخر من الطريق على أحد المقاعد المطلة على البحر، جرت ناحيته بحماسٍ وهي تسأله بعدما وقفت أمامه: حمزة، أيه رأيك؟
قال ساخرًا قبل أن ينظر إليها: هو أكيد أي حاجة هتبقى أحلى من المنظر بتاع الصبح.
ثمّ نظر إليها ليبتلع أي كلمة ساخرة أخرى، وهو يتأمل جمالها وجمال ملامحها السمراء التي برزت أكثر بعدما تخلصت من شعرها الثائر الذي كان يخفي الكثير، ولكن قبل أن يبدي إعجابه كانت تحركت مبتعدة عنه، وقفت على بداية الطريق في انتظار إشارة عبور المشاة بينما بقى هو واقفًا أعلى الرصيف يتأملها، وفي أثناء تأمله لها لاحظ شابًا طائشًا يركب دراجة نارية ويتجه ناحيتها بسرعة قصوى، فحاوطها بيديه ليبعدها عنه، انتفضت من الصدمة وتمسكت بقميصه في رعب حقيقي، ولكن تلك المسافة التي تلاشت بينهما شغلت انتباهها أكثر، رفعت رأسها تنظر إليه نظرًا لذلك الفارق الكبير في الطول بينهما، شتم الشاب ونظر إليها ليطمئن عليها، تفاجأ من نظرتها إليه بهذه الطريقة، ولكنه بادلها النظر للحظات قبل أن تبتعد هي عنه بتوتر ظهر جليًا عليها وهي تفرك يديها، أمسك يدها وهو يسير بمحاذاة الشاطئ، وتركها تفكر في ذلك الشعور الذي شعرت به للتو، والذي كان يتمحور حول الاطمئنان، للمرة الأولى بعد فترة لم طويلة لم يشعر قلبها فيها سوى بالخوف، وكم هو شعور جميل، وغريب لأنها شعرت به بسببه ولم تعرفه بعد، تُرى كيف يُقحم هذا الشعور في قلبها بهذه الطريقة؟ هل هو ساحر؟ أم أنها هي من ملت الخوف وباتت تبحث عما سواه في كل من حولها؟
***
استيقظت بعد وقت طويل وهي تشعر بألم شديد يسري في كامل جسدها، بعدما استعادت وعيها بدأت تتأمل المكان حولها، انتفضت جالسة ما إن أدركت أنها في مكان غريب، حاولت القيام إلا أنها شعرت بدوار عنيف، كما شعرت أيضًا بيدين تمسكانها بحرص شديد، نظرت إلى صاحبها ولم يكن سوى علي.
ظلت تنظر إليه بصدمة، قال بعدما مددها برفق على الفراش: بالنسبة لواحدة عندها السكر أحب أقولك إن اللي عملتيه كان جنان قادر يقتلك.
بتعجب: أنت عرفت منين؟
رد عليها بسخرية: ما أنا أكيد مش ببيع سكر في المستشفى.
ثمّ سألها: جالك من أمتى؟
- من وأنا صغيرة.
- حاولي تهتمي بنفسك أكتر.
نظرت إليه والدموع بدأت تترقرق في عينيها وقد تذكرت آخر ما كانت ستفعله: أنت ليه انقذتني؟
- أحمدي ربنا، فيه حد عاقل يستحمل عذاب الدنيا وبكل بساطة يرمي نفسه في عذاب أشد في الأخرة؟
سقطت دمعة وحيدة من عينيها وهي تقول: بس أنا تعبت.
- شايفة إن ده حل؟
غرق وجهها في سيل متتابع من الدموع: خلاص مفيش حلول، الحل الوحيد إننا نموت، كلنا، أحنا ميتين أصلًا، اللي أحنا فيها ديه مش حياة، ده عذاب، وأنا فاض بيّ، كلنا، بابا اللي في المستشفى ده بيتعب من الهم، أنا عايزه أموت.
- بس أنا عندي حل.
قالت بسخرية وهي تحاول مسح دموعها: متعملش فيها البطل اللي مفيش منه اتنين عشان أحنا مش لسه بنفكر ننط، أحنا خلاص، غرقنا.
قبل أن يرد عليها فُتِحَ باب الغرفة لتهب من خلفه عاصفتين بقوة إلى الفراش، قالت بألم: بالراحة يا زفته أنتِ وهي.
قالت أختها الصغرى أسماء: كنت فاكراكِ ميتة، امبارح كنتِ مرعبة.
بينما قالت حنين: أنتِ عارفه إنك كنتِ بتتكلمي وتعيطي وأنتِ نايمة؟
ثم قالت بحماس وقد لمعت عينيها إعجابًا وهي تقول: بس مين المز ده؟
كان علي يقف بالقرب منهم فسمعها بسهولة وابتسم بخيلاء، لمحته فقالت: فين ده؟
فنظر إليها بوجوم وقال للصغيرتين: تعالو نطلع برا يا حبايبي عشان أختكم لسه تعبانه.
قالت له بصوت عالٍ: تعالى هنا أنت رايح فين، أحنا فين وهتاخدهم ورايح على فين؟
ابتسم ابتسامة باردة وهو يقول: أولًا أنا طالع برا، ثانيًا أنتم في بيتي، ثالثًا هاخدهم ونطلع برا، أي استفسار تاني؟
وقبل أن ترد أكمل: يالا يا بنات نقعد برا.
بعصبية: قعدت عليك حيطة يا بعيد، تعالي هنا يا زفتة أنتِ وهي.
ضحك بصوت عالي ثم قال بعد فترة وهو يحاول التقاط أنفاسه: تتجوزيني؟
***
تمددت على فراشها وهي تنظر إلى سقف غرفتها الذي جعلته أقرب للسماء بتلك النجوم الصغيرة التي تنير في الظلام لتأخذها كل ليلة إلى عالم الأحلام بسلام، ولكن الليلة كان الحلم يتجسد في واقعها، وفي ذلك الوسيم الذي يبدو وكأنه خرج من أحد الأفلام الأجنبية مباشرة إليها، ذلك الشعور الذي شعرت به بعد لمسته الحنونة ليدها، وحين سمعت كلماته الرقيقة، ابتسامته الوسيمة عالم آخر يدعو للغرق خاصة بتلك الحفرتين اللتين تفرضان وجودهما بقوة، أمسكت هاتفها تبحث عنه في مواقع التواصل الاجتماع حتى وجدته وغفت وهي تتأمل صوره، ليكملا معًا حديثًا آخر في أحلامها.
***
في أحد النوادي الترفيهية تجلس مع صديقاتها، تشتكي كل منهن من أزمة ما، فإحداهن فقدت حذائها المفضل، والأخرى لم تجد مصفف الشعر متفرغًا اليوم لها، وأكبرهم لم تجد لون طلاء الأظافر المناسب لها.. من نظرة واحدة شاملة إليهن ستستطيع فهم مشكلاتهن ومستواهن الاجتماعي، سألت إحداهن: بس يا شاهيناز الفرح تم بسرعة أوي.
قالت ضاحكة بتوتر: ما أنتِ عارفه بقى رغد مجنونة وقرروا يجربوا حاجة جديدة.
- بس أنتِ عارفه حمزة ده شكله جان أوي.
ابتسمت بمجاملة: حبيبتي ده من زوقك.
- هو دكتور أيه؟
أنقذها من الإجابة رنين هاتفها، أجابته وقالت وهي مازالت تمسك الهاتف على أذنها: معلش أنا مضطرة استأذن ضروري، عشان عايزني في البيوتي سنتر.
ثم ابتعدت عنهن وهي تسير بخيلاء وتضرب الأرض بحذائها المرتفع وشعرها المصفف بعناية يتطاير من حولها، وتكتمل تلك اللوحة بأكوام من مستحضرات التجميل غطّت بهم وجهها. ركبت سيارتها وهي تتصل بسامح، الذي استيقظ على رنين الهاتف، نظر حوله في الغرفة ليجد إحداهن مستلقية على صدره وشعرها ملتصق بوجهه، أبعدها عنه وهو يتنحنح ليبعد النوم عن صوته، أجابها: أيه يا روحي عامله ايه؟
- الحمدلله يا بيبي وأنت أيه أخبارك؟
- تمام، فينك؟
- رايحه البيوتي سنتر.
شعر بيد تلك الفاتنة النائمة على فراشه تداعب شعره، فقال: نزلتِ بدري، لما مشوفتكيش لما صحيت اتضايقت.
ضحكت قائله: يا روحي، خلاص أنا هجيلك، أنت في المستشفى؟
- لأ، أصل أنا عندي شغل كتير النهارده، نتقابل بليل بقى، كنتِ عايزه حاجة؟
- هو حمزة جوز رغد دكتور أيه؟
- دكتور أطفال، اشمعنى يعني؟ مش واثقة في ذوقي ولا أيه؟
- لأ طبعًا يا روحي أنا مش بثق غير فيك، بس عشان لو حد سأل، مش هعطلك بقى، تشاو يا حبيبي.
- تشاو يا روحي.
أغلق الهاتف وهو ينظر إلى الضاحكة بجانبه، أخبرته: عبيطة أوي شاهيناز ديه.
قال ضاحكًا: أوي.
ثم قبّلها وهو يقول: بس كويس، لولا عبطها مكنش زماننا مع بعض دلوقتي.
قالت بدلال زائف: بس أنا مش بشبع منك الشوية دول، عايزه أشوفك أكتر.
- ما أنتِ عارفه لما بكون فاضي بجيلك.
- طيب أنا عايزه اطلب منك طلب.
قال ضاحكًا: عايزه كام؟
تعلقت في عنقه ووضعت قبلة على وجنته وهي تقول: أحبك وأنت فاهمني، عايزه ٩٠٠٠ جنيه بس عشان أعمل صيانة للعربية.
- عيوني، اعتبريهم في حسابك.
- ربنا يخليك ليّ يا حبيبي.
- أنا هروح أخد شاور بقى عشان أنزل.
وبعدما تأكدت أنه رحل أمسكت هاتفها لتجري اتصال تليفوني قائلة: وائل، هو هيحولي الفلوس، أنت بقى معاك كام كده؟ وهتيجي أمتى؟
سمعت صوته من الطرف الآخر: قريب أوي.
***
نظرت إليه كمن ينظر إلى المختل عقليًا فاغرة الفم غير مستوعبة لما قاله، فأخبرته بعدم تصديق: أنت عبيط؟
قال بعصبية: والله ما فيه حد عبيط ولسانه عايز قطعه غيرك.
ردت بعصبية مماثلة: احترم نفسك.
- مش لما تحترمي نفسك الأول!
نهضت من الفراش بقوة لتغادر، أحست بدوار وكادت تقع إلا أنه هرع إليها وأسندها وهو يقول: ياريت تقعدي وتفهمي الأول، مش هأقعد كل شوية أشيل فيكِ.
بعدما جلست على الفراش نفضت يدها عنه بغضب قائلة: طيب يا أخويا قعدت اهوه فهمني. نظر إليها بغل، حاول تمالك أعصابه وقال: أنتِ دلوقتي مش لقيا شغل، ومش معاكِ فلوس، والمفروض تسددي ليّ فلوس المستشفى ولسه فيه أكل ودراسة وهم، صح؟
نظرت إلى الأرض بتفكير، فأكمل: فممكن توافقي على عرضي الكريم جدًا لغاية ما تلاقي شغل وتسددي اللي عليكِ، وفي خلال الفترة ديه يا ستي أنا مسؤول عن مصاريفك.
وقفت وهي تقول بفتور وقد شعرت بالإهانة من كلماته رغم أنه واقع ملموس: شكرًا على كرم أخلاقك ده، أنا أقدر أشتغل وأصرف على أهلي واسددلك الفلوس اللي عايزها، بعد إذنك.
قال بسخرية: ما هو واضح، عشان كده كنتِ عايزه تنتحري.
نظرت إليه بحزن ثمّ أخذت أختيها ورحلت تلملم خيبتها، يتكلم بمنطقية ولكنها لن تقبل هذا على كرامتها، لقد تخلت عن أحلامٍ كثيرة ولكن أن تتزوج بهذه الطريقة ما لن تقبله أبدًا، ولكن ما يوجعها أكثر أن تكون مكشوفة بهذا القدر أمام غريب..
سَمِعَت صوت أختها حنين تقول: أحنا هنعمل أيه دلوقتي يا داليا؟
تنهدت ثمّ قالت بحدة: هتروحوا أنتم الاتنين عشان تذاكروا، كفاية أوي دلع لغاية كده، اديكوا شايفين المتعلمين اللي معاهم فلوس عايشين ازاي وبيعملوا أيه.
تحسست حنين جيب بنطالها بتوتر وكأنها تخفي شيئًا، ثمّ تمسكت في يد أختها جيدًا وعقلها الصغير يفكر في تلك الخطوة التي أقدمت عليها بتوترٍ والتي قد تتسبب في قتلها حية إن كُشِفَتْ..
انتفضت على صوت أختها: هجيبلكم جبنة وأحنا طالعين ولو عرفت إن واحدة فيكم جات ناحية البوتجاز أو اتحركت حتى من قدام الكتب نهارها مش فايت.
بينما وقف هو في الشرفة يراقب رحيلها، هو متيقن أنها ستعود إليه إلا أن كرامتها الآن تأبى الاعتراف باحتياجها له، فتعبيرات أختيها حين وضع لهما الطعام بعد احضارهما من المستشفى كفيل بتأكيد ذلك، لن ينسى ملامح التعجب التي كانت مرسومة على ملامح الصغيرة وهي تنظر إلى الطعام قائلة: أيه يا عمو الأكل ده كله؟!
بينما سال لعاب الكبرى ولكنها لكزت أختها وهي تقول: عيب كده.
وبعدما اعطاهما الإذن هجمت كلتاهما على الطعام بشراهة وكأنهما لم يروه منذ مدة، ستحاول فمن مثلها لا تيأس بسهولة، ولكنها ستعود في النهاية...
***
أنهت محاضراتها وكانت على وشك الخروج من قاعة المحاضرات إلا أنها وجدت من يعترض طريقها، نظرت إليه ولم يكن سواه، ذلك الذي ظلت ملامحه تطارد كل لياليها السابقة، نظرت إليه بلوم لم تستطع اخفاءه: هو ده اللي هتحضر عشاني؟
ابتسم بانتصارٍ وهو يقول: أكل العيش مر يا آنسه حبيبة والله.
ابتسمت وهي تقول: عامل أيه؟
- الحمدلله، خلصتِ محاضرتك؟
أومأت له فقال: طيب ممكن تقبلي إني اعزمك على الغداء دلوقتي؟
نظرت إليه بتردد فأكمل: مش هنتأخر صدقيني.
قالت بخجل: موافقة.
بعدما جلسا معًا في أحد الأماكن القريبة قال لها: معلش بقى مش زي المطاعم اللي أنتم متعودين عليها.
- هو أنت ليه دايمًا تقول أحنا وأنتم والجو ده، يا ابني ما أحنا بني آدمين زي بعض.
- مش زي بعض أبدًا لأ، أنتم عايشين وأحنا لأ.
- مين اللي قالك كده؟ هو أنت فاكر إننا مولودين كده؟ الفكرة كلها في السعي.
قال بسخرية: سعي؟ والنبي بلاش الشويتين دول عشان ملهمش لازمه.
وقفت وهي تقول بعصبية: مادام أنت شايفني كده تقدر تقولي طلبت نقعد مع بعض ليه؟
أخذت حقيبتها وكادت ترحل إلا أنه أمسك يدها وهو يقول: أرجوكِ استني، ديه نظرتي ومش هقدر أغيرها بين يوم وليلة، أنتِ جذبتيني برقتك وحقيقي أنا نفسي مستغرب وجودنا هنا سوا، بس فيكِ شيء دايمًا بيخليني عايز أكون معاكِ، ممكن كلامي يكون غريب لأننا متعرفناش غير من كام أسبوع بس، لكن أنا أعرفك من زمان، عارف إنك انسانة مختلفة، جميلة جدًا من برا ومن جوا، غريبة وبتحبي حاجات غريبة وقرارتك أغرب، حواليكِ هالة كده تقدر تجذب حتى الأعمى ناحيتك.
مازالت واقفة، تمسك حقيبتها وقد احتضنتها إليها بشدة من فرط التوتر، حاولت أن تجلي لسانها وتشكره، رغم أنها تخيلته في الليالي السابقة يمطرها بكثيرٍ من الكلمات من هذا القبيل وأنها تدربت على كثير من الردود كذلك ولكن غادرها كل ذلك الآن، وهي تقف في مواجهته بالفعل، أمسك يدها خارجًا من المكان: أنا عايزه أوريكِ حاجة.
فحمدت الله بداخلها على تخليصه لها من الرد عليه، وقد انشغل عقلها بالقادم...
***
خرجت من المحل العاشر ربما دون أن تجد عمل، كادت تبكي ولكن لن تفعل، لن تكون ضعيفة كما حاول أن يُلمح، كل الذين قابلتهم إما رفضوا رفضًا صريحًا إما وافقوا مع الكثير من النظرات الدنيئة التي لا تنوي الخير أبدًا.
ذهبت تطمئن على والدها وظهرها محني من ثِقل الحمل عليه، بمجرد دخولها غرفته بدأت دموعها تنساب بلا إرداة منها، جلست بجوار فراشه وهي تسأله: ليه كده؟ أحنا ليه حياتنا كده؟ أنا تعبت، ليه كان لازم نسيب بلدنا وأهلنا؟ فوق يا بابا أنا محتاجاك جنبي، أنت اللي كنت بتصبرني وتمدني بالقوة، أنا من غيرك ولا حاجة، حاسه إني مش قادرة أكمل فعلًا، مش قادرة..
ثم شهقت بقوة وانخرطت في بكاء عنيف، سمعت صوتًا من خلفها يقول بنبرة جديدة على أذنها حنونة ربما وقد تكون مشفقة: تتجوزيني؟
نظرت إليه بتفاجؤ، لم تستطع النطق، فيبدو من ملامحها أنها سمعته، أومأت برأسها إيجابًا ثم غطّت وجهها بكفيها وهي تبكي بشدة، نظر إليها بحيرة لا يدري ماذا يفعل، يشعر بقلبه يتعاطف معها، ولكنه تردد في الاقتراب منها ومواستها لئلا تعتبرها شفقة منه، فبقي واقفًا مكانه يراقبها ويحاول أن يربت عليها بنظراته وبقت هي تبكي يائسة.
***
وقفت تنظر إلى المكان الذي وصلا إليه، مكان عشوائي رث المنظر، القاذورات في كل مكان، روائح وألفاظ ولهجات غريبة تنبعث منه، هناك قهوة على جانب الطريق يجلس عليها عدد لا بأس به من الرجال، بعضهم ينظر إليها وكأنها كائن فضائي، والنساء كذلك يرمقنها بنظرات غريبة ويتأملن كل تفصيلة فيها من أعلى إلى أسفل، البنايات كلها قديمة متهالكة، نظرت إلى المكان بشفقة فيبدو أن قاطنيه تحت خط الفقر بمراحل ضوئية، إلا أنها قالت به: شايف الرجالة اللي قاعدين على القهوة لو كل واحد فيهم ساب القاعدة ديه وقام يشتغل بجد يقدر يوصل لمكانة عالية جدًا، مع إني مش شايفة إن المكان فيه حاجة شاذة تستدعي كلامك برضو.
بتهكم: والله؟
ثم سألها بتحدٍ: يعني أنتِ لو حبيتِ حد من هنا هتقبلي تتجوزيه وتعيشي هنا عادي؟
نظرت إلى عينيه بتحدٍ مماثل وهي تقول: أوافق.
- طيب تتجوزيني؟
***
نظر إليها بطرف عينيه، ذلك الحزن الذي يحتل ملامحها وهي تغادر المدينة يراه الأعمى، هي تحمل سر كبير بداخلها ترفض الافصاح عنه، لقد اكتشف أنها إنسانة كتومة بطبعها لا تُخرج إلا ما تريد، كلما شعرت بالأرق من شيء ما وجدها تقتحم غرفته لتلقي إليه بهذا الشيء ثم ترحل، هي إنسانة غريبة بها مزيج غريب من الصفات رغم ذلك الشهر الذي قضاه معها لم يستطع فك شفرتها، سألها بعد فترة طويلة من الصمت: للدرجة ديه مش عايزه ترجعي القاهرة؟
تنهدت قبل أن تقول: أنا فعلًا مش عايزه أرجع يا حمزة.
- عايزه تقوليلي السبب؟
التفت إليه، ظلت صامتة للحظات قبل أن تقول: أنا عيشت ذكريات وحشة كتير في المكان ده، طول ما أنا موجودة فيه بفتكرها، هتصدقني لو قولتلك إن الأيام اللي قضيتها معاك ديه كانت أسعد أيام حقيقي، هو أنت ممكن تطلع زيهم؟ أنا مش لاقيا مسمى للي بيننا، مش عارفه أحنا صحاب ولا أيه بالظبط بس أنا حابه إنك تفضل كده، اوعى تكون زيهم في الآخر.
هي صادقة تمامًا، فعلى الرغم من أن الزواج هو ما يجمعهما إلا أنهما أبعد ما يكون عن الزوجين، بل ما بينهما أقرب من الصداقة أكثر، أكملت قبل أن يرد: أنت عارف حتى أهلي اكتشفت إنهم أغراب، عمري ما حسيت إنهم أهلي أبدًا، نجاة اللي مش بيربطني بيها أي صلة أقرب لي منهم، أنت عارف هي كانت المربية بتاعتي بما إن ماما كانت مش فاضية خالص لي، شغلها والبيوتي سنتر بتاعها ومظهرها كانوا أهم ليها من أي حاجة، أنت عارف حتى وقت ما والدي اتوفى كان شكلها أهم ليها من أي حاجة تانية، نجاة وعمو أحمد جوزها أقرب ما لي، سامح طردهم وأنا صغيرة، كنت لسه 12 سنة ومشاهم عشان يخليني حزينة، كان بيحاول يعمل ده دايمًا بكل الطرق، بس عرفت مكانهم وبقيت أروح عندهم، نجاة ساعدتني ألاقي حاجة أنا بحبها انشغل بيها عنه وعن كل حاجة وحشة موجودة، جربت حاجات كتير بس الرسم كان أكتر حاجة لقيتني فيها، فازاي عايزني مزعلش وأنا راجعه لكل ده تاني.
أمسك يدها بحنان وهو يقول: أنتِ مش هترجعي لأي حاجة من ديه تاني، لأن أنا دلوقتي موجود ومش هاسمح لأي حاجة من ديه تواجهك تاني.
ابتسمت له ثمّ سألته: أنا كل ده برضو مش مستوعبة أنت ازاي دكتور أطفال؟
احتل الألم عينيه لجزء من الثانية ولكن رنين هاتفه قطع حوارهما، فأجاب على مضض بعد أن نظر إلى شاشة هاتفه: الو يا خالتو عامله أيه؟
سمع صوتها من الطرف الآخر يقول: أيه يا حمزة، هي السنيورة لحقت تاخدك مننا؟
نظر إلى رغد وهو يقول: خالتو بتسلم عليكِ يا حبيبتي.
نظرت إليه رغد بتعجب بعد كلمته الأخيرة التي لمست شيئًا ما بداخلها، ردت خالته عليه: هتيجي أمتى؟
- أحنا في الطريق.
- طيب أحسن برضو، أصل أنا وسوزان عايزين نشوفكم.
- طبعًا تنوري يا خالتو.
أغلق الخط معها وهو يقول ضاحكًا لرغد: بصي أنا مش هحرقلك المفاجأة اللي مستنياكِ أنا هسيبك تكتشفيها لوحدك.
وعلى الطرف الآخر بعدما أغلق الخط اتّجهت خالته فريدة إلى غرفة ابنتها سوزان والشرر يتطاير من عينيها، كانت ابنتها منكبة على أحد الكتب كعادتها ولكنها انتفضت حين دخلت والدتها الغرفة فجأة، أخبرتها وهي ترفع نظارتها الكبيرة على عينيها، قالت: كنت هجيلك، ماما أنتِ عارفه إن المصريين القدماء كان عندهم أكثر من 1500 اله؟ وإن هم...
قاطعتها بعصبية: يخربيتك أنتِ والمصريين القدماء يا شيخة زهقتيني، قعدت أقولك اتلحلحي شوية عشان تلفتِ نظر الولا أهوه اتجوز، فرحانه أنتِ كده يا فالحة؟ أنا هموت ناقصة عمر بسببك.
كادت تخرج من الغرفة إلا أنها التفتت إليها لتقول: يكون في علمك أول ما يرجع هو والسنيورة بتاعته هتكوني على سنجة عشرة عشان نروح نشوفهم.
- يا ماما ده اتجوز خلاص.
- وأيه المشكلة يعني؟ أنتِ عايزه فلوسه ديه كلها تروح لحد غريب؟
- أنا مش بحبه.
بعصبية: تاني هتقوليلي حب؟! وأنتِ كان مين حبك يا موكوسة؟
نظرت إليها بألم ولم ترد، متى تلقت الحب من قبل حتى ولو من صديق؟؟
خرجت والدتها وتركتها تجلس وحيدة حزينة في الغرفة، فتحت أحد الكتب عله ينسيها ذلك الشعور الذي تشعر به في هذه اللحظة، أن تنسى أنها كانت ومازالت غير مرغوب فيها في هذا البيت، بل في هذه الحياة بأكلمها..

رواية رغد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن