فتحَ ماهر عينيه ببطءٍ ليلتقي بالسوادِ ضيفًا ثقيلًا مع كلِّ الألم الذي يشعر به في جسده، فَقَدَ شعورَه بكلِّ الموجوداتِ حوله، يشعرُ فقط بسائلٍ دافئٍ يسيلُ على جسده، يحاولُ أن يهدئ صوت لهاثه حتى يسمع خطواته، يسمع خطواته القادمة لتأخذ روحه معها، رغم حبه للموت ومشاهدة اللحظات الأخيرة والمؤلمة في حياة البشر، رغم فرحة قلبه لرؤية تعذيبهم إلا أنه لم يتخيل يومًا أن يكون مكانهم، كلّ السعادة اختفت فجأة وحل محلها الألم، ربما نسبة نجاته ضئيلة جدًا ولكنه فقط يريد إجابة، لماذا؟ لماذا يُعذب الآن وهو لم يفعل شيئًا سوى الانتقام لمظلومٍ؟
رجعَ بذاكرته إلى ذلك اليوم قبل سبع سنوات، كانت حياته هادئة، أو لنقل مملة رتيبة، يستيقظ في الصباح، يُطعم الكلب والذي هو آخر شيءٍ تبقى له من أهله، ثمّ يذهب إلى عمله، ينهيه ثمّ يعود إلى البيت ويخلد إلى النوم ليستيقظ في الصباح التالي ويعيد كلَّ ذلك مرة أخرى، حياته عبارة عن حلقة متصلة من التكرار، حدوث أي شيء غريب معجزة لا تحدث إلا لمامًا، وحتى ملامحه كحياته، من النظرة الأولى لا إراديًا تُشعرك بالملل، ملامحه معتادة تكاد تجزم أنك رأيتها مئات المرات من قبل.
لم يجد تفسيرًا لما صارت عليه حياته إلا بسبب استهزائه من حياة والده قديمًا، كان يتعجب من تحمله وخاصةً حين يستمع إلى حكايات شبابه المليء بالمغامرات، فكرة أن يترك إنسان نفسه للحياة تحركه بروتينها المعتاد كما تشاء أمر كان أكبر من قدرة استيعابه، ولكنه حينها كان طفلًا مراهقًا لا يعي أن الحياة قد تفعل أكثر من ذلك..
يتذكر أفكاره وقتها، لم يكن يسيطر عليه سوى فكرة ذلك الشيء المميز الذي خُلِقَ من أجله، مما ضيّع منه الكثير؛ ففي النهاية قذفته الرياح إلى الدرب الذي اختارته لا الذي اختاره، لا ينكر أن فكرة ذلك العمل المميز تطرأ على ذهنه من حينٍ إلى آخر، فالمرء مهما كان لا يستطيع أن يتخلى عن أحلامه بسهولة، حتى أحلام الطفولة الساذجة التي نسخر منها، فرغم مرور الوقت تظل تلك الأحلام جزءً لا يتجزأ منا.
في أثناء تفكيره سمع صرير الباب الحديدي المزعج، ومع فتحه سمع أصوات صرخات مختلفة، حسنًا رغم مهنته إلا أن أكثر شيء يهابه هو الصراخ، لا يرتبط في ذهنه إلا بصورة والدته ويديها ملطخةً بالدماء وقد فقدت أحد أصابعها وهي تتشبث بقدم والده عله يرحمها، لذلك دائمًا ما يضع قطنًا في أذنيه وقت العمل ليحميه رغم السخرية التي كان يتعرض لها، يشعر الآن بأيادٍ كثيرة تُقطر دمًا تقتربُ منه، تحاول التشبث به وهو ممدد على الأرض ولا يستطيع الحراك، حتى يديه لا يستطيع تحريكهما ليضعهما على أذنيه، هي دقائق فقط المُتبقية له، أغمض عينيه وهو يحاول أن يهرب من واقعه إلى الماضي، إلى ذلك الحدث المزعج الذي يؤرق حياته، حينما استيقظ ذات يوم على صوت صراخ تهتز له جدران البيت، كان وقتها في العاشرة من عمره، انتفض من مكانه وذهب مهرولًا إلى غرفة والديه، والتي هي مصدر الصوت، ليجد والدته تجلس على الأرضِ وملامحها يكسوها الألم وهي تنظر لوالده بخوفٍ، كانت تبكي، تبكي بانكسارٍ يراها عليه للمرة الأولى، كانت تحاول أن تمسك قدمه لتترجاه أن يغفر لها ولكنه كان يبتعد عنها متقززًا، كانت تترجاه ورائحة الذب تفوح منها، والده كان يقف أمامها والتلذذ يحتل عينيه وهو يمسك بين يديه أحد أصابعها، ملامحه كانت منتشية بطريقة مريبة، يده الأخرى يمسكُ بها سكينًا تُقطرُ دمًا مثل يد والدته، كانت الصدمة تحتل نظراتهما، ولكن سرعان ما عاد والده إلى رشده، وقال لها: أنتِ خاينة، أمثالك مينفعش يعيشوا ثانية واحدة!
قالت له بتوسلٍ: صدقني ده كان زمان، كل ده كان قبل ما أعرفك هو...
قاطعها بغلٍ: سايبه كل الرجالة ورايحه لصاحبي؟
ثمّ أمسك يدها وهو يقول: مش ديه أيدك اللي سلمتي بيها عليه؟
وبكل تلذذ وضع يدها أمامه ومرر السكين على المُتبقي من أصابعها ببطءٍ مؤلم حتى قطعهم جميعًا وصوت صراخها كان يعلو أكثر فأكثر، ابتسم والده وهو يقول: أوعي تكوني فاكرة إنه خلاص كده، لأ، لازم تتعذبي زيي، لازم تتعذبي، مش هموتك بسهولة.
ثمّ أمسك رأسها بعنفٍ، ظلت تصرخ بخوفٍ، ولكنها فقدت قدرتها على المقاومة وفرت منها قوتها تمامًا كما أصابعها المنتشرة على أرضية الغرفة ودمائها التي تسيل منها، أكثر ما تستطيع فعله هو الصراخ عله يعود إلى وعيه، ولكنه لم يفعل، وبملامحٍ متلذذة فتح فمها بعنفٍ وأخرج لسانها ثمّ أمسك المقص ومرره على طرف لسانها وهو يضحك، صرخ فيها: مش ده لسانك اللي كلمتيه به؟!!
أمسك الجزء المقطوع من لسانها وهو يقول: حاسه بالألم صح؟ أنا مبسوط، صوت صراخك ده بيفرحني.
ثمّ أكمل بهستيريا: أنا بكرهك، يا خاينة!!
وضربها بغضبٍ وتهورٍ ثمّ بدون تفكير شج رقبتها بالسكين، وقف ينظر إليها دقائق معدودة، كانت ملامحه يظهرعليها تعبيرات عدة إلا أن الندم لم يكن بينها، الندم اختفى تمامًا وكأنه مستمتع بملمس دمائها على جسده وهو يراقب لحظاتها الأخيرة، لن ينكر أن والده كانت تصرفات غريبة دائمًا، ولكنه لم يتخيل يومًا أن تصل غرابته إلى هذا الحد، بعد دقائق من التأمل طعن نفسه ليسقط صريعًا بجانبها، ليلاحظ وقتها صغيره وهو يقف خلف باب غرفتهما الغير مُغلق جيدًا، ابتسم له والده وهو يشير ناحيته، تمتم له بكلمة ما إلا أنه لم يسمعها، وسرعان ما التقط أنفاسه الأخيرة ثمّ أغمض عينيه ليتركه وحيدًا في هذا العالم، تركه وحيدًا مع كلبٍ وكثير من الكوابيس، والكثير والكثير من الصراخ الذي كان يسمعه ليلًا يتردد بين أركان الشقة التي يجلس فيها بمفرده خاصةً من غرفة والديه، وكلما كان خائفًا كان يشعر بيدٍ دافئة تقترب منه وتتلمس جسده، ظل أكثر من خمس سنوات يعاني بسبب كلّ الأشياء الغريبة التي تحدث حوله ولكنه حاول التعايش مع الوضع بما أنه لا بديل أمامه..
ظل يتنقل بين الوظائف ليكسب قوت يومه، حتى وجد عملًا مستمرًا حين زاره أحد أصدقاء والده، عم إبراهيم، رجلٌ سمحُ الخِلقة نقي الخليقة، ولكن رغم ذلك يُراوده شعورًا من عدم الارتياح في حضرته، يشم رائحة غريبة تفوح منه رائحة قريبة للذنب، تلك الرائحة التي التقطها للمرة الأولى حينما كانت تنبعث من والدته في لحظاتها الأخيرة، ولكن أفعاله تُزيلها بكلِّ سهولة؛ فهو من بعد وفاة والديه أصبح كثير الإهتمام به وبكلِّ شؤنه.
أجلسه في غرفة الضيوف وبعد السلام سأله عم إبراهيم بودٍ: أيه الأخبار يا ماهر؟ عايش ازاي؟
ابتسم له قائلًا: الحمدلله أهو كل يوم في شغلانه شكل وربنا بيدبرها من عنده.
- بص فيه فرصة شغل كويسه قدامي، لسه عندنا في السجن فاتحين اختبارات عشماوي، روح قدم وأنا هعديك في كل حاجة، ممكن تبان حاجة صعبة بس أحسن من الشحططة خصوصًا إنك مش معاك شهادة، بدل ما تفضل كلّ يوم في شغلانه شكل.
وقد كان، قُبِلَ وعمل مساعدًا لثلاث سنوات، الأمر كان غريبًا عليه في البداية، خاصةً حينما رأى غرفة تنفيذ الأحكام، حتى يصل إلى الغرفة يجب أن يسير في ممرٍ طويل يزيد من رهبة المحكوم عليه، كُتِبَ عليها باللون الأحمر (غرفة الإعدام)، الغرفة متوسطة الحجم، يتوسطها طبلية خشبية ذات ضلفتين يقف عليها المذنب، بها سلم حديدي وأسفلها بئر عميق يصل إلى أربعة أمتار، يتم التحكم فيها عن طريق ذراع حديدي يُسمى "السكينة"، بعد تثبيت المذنب جيدًا وربطه بالجنازير من يديه وقدميه ثمّ جنزير ينتهي بصامولة حديدية يتم فتحها لتركيب حبل المشنقة فيها والذي يتحدد طوله حسب طول المسجون ووزنه، وبعد ربط حبل المشنقة يتم سحب السكينة فيسقط جزء من جسد المتهم في البئر، هذه العملية تُحدث كسرًا في فقرات الرقبة وتهتكًا في النخاع الشوكي فيموت على أثرها المذنب بعد دقيقة أو دقيقتين ويُترك بعدها لمدة نصف ساعة حتى يتجلط الدم الذي ينزف منه.
حين رأها أول مرة كان يشعر بمشاعر مختلطة ولكن الاستمتاع كان جزءً منها، والفضول لما هو آتٍ، غرق في تأمل كل تلك التفاصيل التي يتعرف عليها للمرة الأولى، ملامح المساجين المُعذبة بشكلٍ ما كانت تُسعد قلبه، مشاهدة لحظاتهم الأخيرة كانت متعةً لا يضاهيها شيئًا بالنسبة إليه، مازال يتذكر أول مجرم أعدمه بشكلٍ مباشر، حينها مرض رئيسه فجأة وكان يجب عليه أن يتولى العمل مكانه، لن ينسى نظراته المتوسلة، وكلماته الأخيرة وهو يتشبث به في أملٍ: أنا مظلوم بجد!
تردد في البداية ولكنها مهمته الأولى والأخطاء فيها غير مقبولة، سحب السكينة ثمّ وقف بعدما أنهى مهمته ينظر إليه بشرودٍ، بعدها لا إراديًا قرر أن يبحث خلفه رغم علمه أنه من الطبيعي أن يقول المُقبلين على القتل بتك الطريقة مثل هذه الأقوال ولكن فضوله كان أقوى، ورائحته كانت أشد، فلم يلتقط عليه تلك الرائحة المميزة الخاصة بالجريمة، ولا حتى الذنب، وحتى نظات عينيه، لم تكن نظرات مذنبخائف من العقاب، بل كانت نظرة نقية تريد إثبات شيئًا ما، لم يكن يعلم وقتها أنه قد يقوده إلى طريقٍ من المتعة الخالصة، طريق انتهى بكثيرٍ من الاستمتاع وسينهيه معه بكثيرٍ من الألم..
أنت تقرأ
نوفيلا الغرفة المغلقة
Korkuنظر إلى رؤوسهم الموضوعة أمامه على الطاولة وهو يبتسم بانتصارٍ؛ فها هو أخيرًا وصل إلى ذلك العمل المميز الذي خُلِقَ من أجله، حصل على سعادته الضائعة في دروب الرتابة داخل تلك الغرفة المغلقة... نوفيلا إلكترونية نشرت على منصة إبداع الإلكترونية.