بين لفحات الهواء الساخن وصراخ الأطفال وهم يلعبون بين الأزقة الضيقة متلقين التوبيخ من كل من في الحي إثر إزعاجهم لهم بينما يحتسون فنجانا من القهوة الساخنة، في حين لا يزال فارس نائما مستمتعا بأحلامه التي لم تكتمل لمباغتة كرة إحدى الصبية لبيته بعد اقتحامها لإحدى النوافذ.
استقام فارس من سريره بعد سماع صوت الحطام ليتجه نحو الصوت الباب الذي لم يتوقف عن الطرق، ليفتحه ويظهر للأطفال بشكل رث قائلا بصوت شبه مستيقظ:" أيها الفتية كم من المرات يجدر بي أن أستيقظ على صوت حطام نافذتي؟ هلا يجبني أحد منكم؟ هل يجدر بي أن أتجه لشراء زجاج جديد كل ثلاث أيام."
لينحنوا الأطفال معا وكأنهم قد خططوا مسبقا لذلك وقالوا في نفس واحد معتذرين:" نحن نعتذر عما بدر منا ولن نكررها مرة أخرى، عمي فارس." أومأ فارس لهم بابتسامة حنونة و قال:" يا رفاق لا ترحلوا حتى أجلب لكم كرتكم وبعض الشكولاتة التي تحبونها." نظر الأولاد لبعضهم البعض في ابتسامة تضيء في أعينهم و أومأوا له شاكرين، ولم تمر سوى دقيقة على إحضار المرة و الشوكولاتة. ورحلوا مجددا لإكمال إزعاجهم للجيران.
في ذلك الوقت اتجه فارس ليبدل ملابسه استعدادا لمرور بجولات كثيرة قبل توجهه لعمله. فتبدأ جولته بزيارته لجدته في كل صباح ليتناول الإفطار بصحبتها، ومن بعدها المرور بخالته ليصلها و ليلبي طلباتها التي تحتاجها لتقوم بإعداد الغذاء، ثم يتجه إلى مقابر العائلة للدعاء لكلا والديه و بعدها يشق طريقه بين محطات الحافلات ليصل أخيرا إلى عمله الذي يستغرق منه اليوم بأكمله ولكنه لا يزال مبتسما رغم كل ما يواجه من صعوبات بداية من مشقة طريقه مرورا ببعض العقبات و نهاية بسخط مدراءه في العمل.
كان فارس يعمل منذ الساعة الثانية ظهرا إلى الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل لينهي بعض التقارير التي طلبه منه مديره في العمل، ليضعها في مكانها ويتجه من بعدها في رحلته الثانية للعودة إلى منزله ولكن قبل أن يقوم بذلك مر بإحدى الشواطئ القريبة من منزله ليقف لوهلة أمام البحر ويركب سفينة ذكرياته لتقوده حيثما تقف والدته بجانبه مساعدة إياه في القيام بقصر من الرمال، وبعد الساعة والنصف من العمل عليه، مسحت والدته جبينه قائلة بينما تمسد على شعره بحنان:" أحسنت صنعا يا ولدي الصغير، لا تجعل أحد يتجرأ على وطء هذا القصر دون السماح له أولا، ومهما كانت النتيجة و إن تطلب الأمر دما فقف أمامه بدون أن تهتز منك شعره كي تتجنب العيش ذليلا طيلة حياتك طالبا من جميع من حولك المساعدة بينما الكل منشغلا في أموره الخاصة متجاهلا مشكلتك." لتنظر في عيني صغيرها بابتسامة حنونة ثم قبلته على خديه و أخذته متجها إلى إحدى المطاعم التي بالجوار.
وبعد ساعتين من الإبحار على سفينة الذكريات رسا فارس على شاطئ الواقع ومسح دموعه التي لم تطرق الباب لتدخل، وإنما اقتحمته ، ليقول بصوت باكي بينما يتلمس المياه بيده:" لا تخافي يا والدتي فقد صمدت أمامهم جميعا وقمت بطرد أخر جندي قد اقتحم أراضي بلادي الغالية، والآن لن يتجرأ أحد منهم العودة مجددا." صمت قليلا لبلع ريقه و قال بتمني:" لقد اشتقت حقا لك، و اشتقت لكلماتك الدافئة لي بين زحام المارة في السوق لتسليني بينما ننتظر، ألا يمكنك العودة لبعض الوقت؟" تنهد بيأس محدثا نفسه:" لقد عدت للحديث بالهراء مجددا، كيف لها أن تعود لآن بعد موتها!"
بعد توبيخه لنفسه استقل إحدى الحافلات المتجه إلى منزله، و بمجرد وطء قدميه للبيت اتجه مسرعا إلى فراشه الناعم مغطيا جسده ببطانية تقيه من قرصة مكيفه.
لم تمر سوى دقائق حيثما بدأ القصف مجددا على غزة ليستيقظ فارس على صوت القنابل وصراخ الأطفال ونحيب الأمهات على أولادهن المدفونين تحت حطام المنزل المنهار.
تنهد فارس بخوف ممزوج بحزن حينما أدرك الوهم الذي عاشه بين أحلامه، ليستقيم بفزعة لسماع إحدى السيدات يصرخن "لقد دمر بيت أم أحمد، لقد دمر بيت أم أحمد." ركض فارس ليرى ما حدث لجدته، وحينما خرج من منزله وجد الأطفال المزعجين صاحبي الكرة ممتلئين بدمائهم وبجانبهم أمهاتهم يصرخن وينحن على من سرق منهم أعمارهم، و على يمينه صاحب البقالة جالس بجانب حطام بقالته وبين أحضانه ولده الذي قد كتب لحظاته الأولى في الحياة قبل أسبوع من وفاته.
لم يفهم فارس كيف لهم العودة بهذه السرعة بين ليلة وضحاها، وقال بين نفسه خائفا مما رأه:" ما الذي حدث؟ ألم نطردهم من أراضينا؟ لم عادوا من جديد؟ لم تغير الحال مجددا ليعود للأسوأ بمجرد أن أغفو لعد ساعات؟"
حك مؤخرة رأسه لعدة مرات ليتذكر ما حدث في تلك الليلة قبل التغير، فتذكر بعدها حقيقة أن الوضع لم يتغير و زاد سوءا بل هذه مجرد صباح الخير لدى اليهود، وتذكر والدته و قصر الرمال الذي شبهته بفلسطين، وتذكر والده الذي راح ضمن ما ذهب مع القصف قبل خمس سنوات فقد كان من الذين يحاولون الدفاع عن أرضهم وحقهم الذي وقف الجميع مصفقا في مؤتمرات السلام ومناقشات الهدن لمن يستطيع أن يصيغ الخطاب الأفضل.
ركض فارس سائلا الجميع إن كانوا قد رأوا جدته في أي مكان، ولكن كانت الإجابة المتوقعة:" لم أعرف أين ولدي هل سأعرف أين جدتك؟"
مع استمرارية القصف طيلة اليوم ومساعدات فارس التي لم تتوقف، لم يستطع إيجاد جدته تحت أي من الحطام المنتشر في جميع المقاطعة.
عند حلول الليل جاء أحد الفتية المصابين وقال بصوت حزين:" لقد وجدنا أم أحمد تحت أنقاض إحدى البيوت المجاورة للبقالة القديمة." اتبعه فارس الفتى مهرولا ببطء خوفا من رؤيتها.
صحيح أنه كان يبحث عنها، ولكنه تمنى ألا يجده في هذا الوقت بالتحديد.
بعد سبع دقائق من الركض وصل فارس إلى مكان جدته، حيث وضع الجثث التي لم يعرف لها صاحب، فوجد جدته بين جثث النساء و الرجال، الكبار منهم و الشباب و حتى الرضع و الصغار.
جثى فارس على ركبتيه باكيا بحرقة قائلا:" اتضح لي أن كل ما رأيته مجرد أمنيات لن تتحقق إلا في أحلامنا، أحلامنا التي تنص على أن تستيقظ فئة منها لتجد نفسها تحت حطام إحدى المباني، و تستيقظ فئة أخرى على صوت بكي و نواح أمهاتهم على موت إخوتهم و أخواتهم، أحلامنا التي تحرم علينا الإفطار مع أحبتنا في أمان وحب، وتجعلنا نستيقظ فزعين متلذذين بطعم تراب و حجارة منازلنا، أحلامنا التي تنص على الهروب و الاختباء بين الأزقة الضيقة وتحت الحطام خيفة القفص التالي و تجنبا لرؤية الأطفال لأباءهم و أمهاتهم ملتفين بأغلال الجروح و ومبتسمين في حلي الدماء، وهو المنظر الذي كاد أن يعتاد عليه الجميع.
أحلامنا التي أقصى حدودها أن نحيا كما يحيا أبسط إنسان بحق الحرية و الأمان. لم نطالب من قبل معاهدات سلام و حماية في أرضنا، لم نطالب بأشعار في الاجتماعات، ولم نطالب بأن نذل في مواقع التواصل الاجتماعي لنحصل على تعاطف الناس لننال أبسط ما نستحقه كبشر."
أنها فراس حديثه ليقبل جبين جدته، ويبدأ القصف من جديد ليرقد فارس بجانب جدته.
أنت تقرأ
حقيقة الأحلام- Palestine
Short Storyقصة قصيرة تتضمن بعض من مقطفات ما يعانيه الشعب الفلسطيني. أسأل الله أن يزيح همهم و يجيرهم من أيدي الاسرائلين و أن يجدوا السلام قريبا بإذن الله