تهاوى رأسي على صدري بتعب وإنهاك بالغين.. لم يمضِ على وصولي للقرية إلا عدة ساعات، وكانت عودتي أسوأ مما توقعت بمراحل.. وها أنا سجينة لا أملك من نفسي شيئاً، وقد صدر الحكم عليّ دون أن يجادل عني أحد أفراد القرية ولو من قبيل الاعتراض..
سمعت صياحاً ملحّاً بدا لي خافتاً لبعده.. أو ربما لشدة إنهاكي لم تستقبله أذناي بالصورة المعتادة.. كان الصوت ينادي اسمي بنبرة عذبة تحمل شوقاً عارماً في ثناياها.. وتهاوت مشاعري مع ذلك الصوت الذي اشتقت لسماعه منذ أمد طويل.. الوغد سامار لم يمنحني الفرصة لرؤية شقيقتي الصغيرة والاطمئنان عليها قبل أن يقيم لي تلك المحاكمة التي كتبت نهايتها قبل أن تبدأ بالفعل..
"ألست حانقة لما جرى لك؟.. يحق لك أن تبغضي تلك الفتاة البلهاء، فهي من زجّ بك في هذه الورطة.. يمكن القول أنها كتبت نهايتك ببلاهتها المعتادة تلك.."
لكن كيف لي أن أبغض شقيقتي الوحيدة؟.. لقد بلغت الفتاة الخامسة عشر من عمرها دون أن يتجاوز عقلها عقل فتاة في الخامسة.. وفقدت والديها في سن صغيرة جداً فلم تكد تعرف أحداً منهما.. لا تعرف من هذه الدنيا إلا شقيقتها الوحيدة التي تناديها أحياناً ببراءة تامة "ماما...."
ولم ألُمها قط على مناداتها لي بهذا اللقب الذي يفوقني حجماً، بل رضيت بهذا الدور الذي رُسم لي في سن مبكرة.. ولولا وجود عمة عجوز لي تعهدتها بالرعاية أثناء غيابي، لربما اضطررت لاصطحابها معي في رحلتي الإجبارية هذه وعرضتها لأخطار لا تحصى..
تتالى نداء شقيقتي لي والتي منعت من الاقتراب مني بالطبع.. كما أنها قد أجبرت على ملازمة الكوخ الذي نسكنه منذ تلك الليلة بحجة أنها ببلاهتها تعرض القرية كلها لمصاعب أكبر من أن يتحملوها.. وما الذي قد تجرّه فتاة بطيبتها وبراءتها لقرية كهذه؟..
لم أستطع معارضتهم في كثير من الأحيان بعد ما جرى منذ سنة تقريباً، قبل أن يزجّ بي سامار في هذه المهمة العسيرة.. في ذلك اليوم، اختفت شقيقتي كامون من الكوخ منذ طلوع الشمس.. لكني وعمتي لم نحمّل غيابها أكثر من أهميته، فهي معتادة على التجوال في القرية واللعب مع بعض الأطفال بحرية تامة.. لكن مع انتصاف النهار دون أن يبدو لها أثر، انطلقت بحثاً عنها في أرجاء المكان.. وبعد بحث طويل في أرجاء القرية، عثرت عليها في ذلك الجزء السفلي من الغابة، حيث تحتفظ القرية بالماشية التي يقوم أفرادها بتربيتها والحفاظ عليها.. كانت تلك الماشية من أغلى ما نملك، مكونة من قطيع حيوانات (كوشو) النادرة، التي لا تتواجد إلا في هذه الغابة.. هذه الحيوانات التي تمتلك ثلاث أعين، بعين في منتصف جبهتها، تشع نوراً في الليالي المظلمة، وهي مصدرٌ ثري لنا بالدماء الغزيرة التي تمدّنا ببعض قوانا السحرية وتعيننا على اكتساب تفوقنا وسيطرتنا على الكثير من الكائنات.. كان الاقتراب من هذه القطعان محرّماً، مع حراسة شديدة حوله عادة.. ولذا كان ارتياعي كبيراً وأنا أرى كامون تقف وسط القطعان تضحك بسعادة بالغة، فيما غابت الحراسة من المكان للغرابة.. صرعت لرؤية عدد كبير من تلك الحيوانات مرميّة عند قدميها ميتة وقد سالت دماؤها الغالية أرضاً ليشربها التراب بسرعة وشراهة.. بدا أن كامون لم تقاوم رغبتها في شرب دماء تلك الحيوانات، ولكنها للأسف لم تكتفِ بواحد، بل تنقلت بين عدد منها وهي تترك الحيوان صريعاً بعد أن تشرب بعض دمائه..
أنت تقرأ
طريق الأطياف
Fantasíaطفلة هاربة، تسلك طريقاً لم يسلكه البشر قط.. لتجد نفسها في عالمٍ لا تدري ما ينتظرها فيه.. ولا ما يراد بها.. تجد نفسها مطمعاً لكائناتٍ لم تسمع بها أو ترها قط.. ولا تجد إلا مذؤوباً يحميها، ويسعى لإنقاذها من كل ما يتهددها.. فما سبب قدومها لهذا العالم؟...