مع بداية الربيع من كل عام، وبعد انتهاء فصل الشتاء، وقليل من الدفء الذي يلامس اوراق الشجر، وازهاره التى بدأت تستشعر الدفء فنبتت من اغصانها.
كان مايميز فصل الربيع فى قريتنا الريفية الصغيره، أشجار التوت الابيض والاسمر، وعبق زهور الموالح (البرتقال، واليوسفي) ذات العطور المبهجة ليلا.
تذكرت شيئا كاد ان يختفي ذكراه ووجوده من ملامح قريتنا، إلا أننا بادرنا أنا وأبن عمي بزراعة شجرتين فى اطراف الخقل من الجهة الغربية.
مع دخول الربيع وارتفاع حرارة الجو شيء فشيء، كانت الافرع والاغصان تتشكل ملامحها المكسوة ببعض العناقيد التي تنبت منها ثمار دائرية خضراء كمثل ثمار النبق، ثم تبدأ تدريجيا فى الانتفاخ حتى تصبح مستعدة للختم لتنضج وتصبح جاهزة للأكل شهية طيبه.
فى طفولتى كانت أشجار الجميز والتوت على جوانب الطرقات فى كل ممر فى القرية، فى كل حقل على اطرافه شجرة منهما او كلتيهما، كما أن اغلب المنازل والبيوت، إما أن تجد امامها شجرة توت يستظلون بها أو شجرة جميز، أو تكعيبة عنب تفرد ظلها فوق الجالسين.
الجميز كان يمثل دخلا موسميا مرضيا لبعض الاهالي، الذين يقومون بالتجارة فيه.
حين تبلغ العناقيد اكتمال نبتها ويصبح العجر (ثمار الجميز قبل ان تنضج) ملائما لختمه، نقوم بختمه باستخدام مختم يشبه المشرط الجراحي، سلاحه الحاد قصير لا يتعدي طوله السنتيميتر، يتم عمل فتحة عرضية او طوليه تقريبا نصف سنتيمتر فى لحاء العجر، يخرج منه سائلا ابيض لزجا به مادة لاصقه تتحول بعد ذلك الى اشبه باللبان، لكنه ذو رائحة نفاذه ولا يستخدم، تلتصق تلك الماده بيديك ولا تخرج الا بعد غسلها أمثر من مرة بمادة كحوليه او الصابون، او الرابسو.
يترك العجر الذي تم ختمه لمدة تتراوح مابين اربعة ايام الى ستة أيام على حسب حرارة الجو حينها.
تبدأ ثمرة الجميز فى التحول والنضج على مدار الأيام تلك، وكأنها شمت أنفاسها من تلك الفتحة التى تمثل لها طوق النجاة من الذبول الى النضج والنفع، تكبر وتبدأ فى دورة من تغير الوانها من الاخضر الى الابيض المخضر ثم خليط من الخضار والبياض والصفرة، ثم يكسهوها لون مابين الحمرة والبياض المصفر بخضرة لتصبح ناضجة شهية ذات رائحة مميزة بعد مرور ايامها الخمسه.
يتم جمع الثمار فى اوقات الصباح الباكر قبل شروق الشمس، حتى لايفسد اثر حرارة الجو حين تلامسها بيدك لتقطفها.
يعرف الجميز لدى الكثيرين فى القطر المصري، كما أن له ارتباطات عديدة بذكريتنا القديمة من البهجة والطفولة،بمجرد ذكر اسمه تتذكر تلك الذكريات حتما،ربما تبتسم ضاحكا لموقف لا يتذكره سواك واصدقاؤك.الآن بعد عقود مرت على تلك الذكريات الجميله،تغيرت معالم القرية أشبه بالمدينة الا من أجزاء متفرقة من الجوانب.
الطرقات صارت اكثر ضياءا بفعل مصابيح الهرباء ليلا، أما اشجار التوت والجميز فلقد أخذت تدريجيا بالاختفاء حتى اوشكت على الندرة،لقد تم تقطيع أغلب الاشجار على جوانب الطرقات،كذلك اشجار التوت.
حتى فى الحقول الزراعية تم التخلص من كل اشجار التوت والجميز.
اليوم قمت أنا وابن عمي محمد بزراعة شجرتين صغيرتين من الجميز على اطراف الحقل،ولانعلم ان كان فى العمر بقية لنحصد مما زرعنا ثمرا أم لا،غير اننا زرعنا زرعة ليأكل منها طيرا او انسانا او حيوانا أو يستظل تحت ظلها احدا،ويسكن فوق اغصانها طيرا متعبا.
وعلى ذكر الطير؛أذكر طائرا يرتبط ذكر اسمه بالجميز وأغلب ثمار الفاكهه،ولكنه مرتبطا فى اذهان أهالى القرية اكثر بموسم الجميز وثماره.
طائر الوطواط،كان اكثر مايعكر صفو اصحاب الجميز ممن يسترزقون من ثماره.
الوطواط يحب ثمار الجميز كثير،وهو لايظهر الا ليلا فى السكون والظلام،يأتي على رائحة ثمار الجميز بأسراب ومجموعات،وطالما أن هناك ظلاما،لا يتوقف الا ان يحصد كل ثمار تلك الشجرة بين اجنحتة فى جيوبه،حين تراهم فوق شجرة الجميز ليلا،تشعر وكأنهم قد دعوا الى حفلة عشاء فى مائدة شهية لم يراها جائع من قبل ولن يراها مرة أخرى،من كثرة فرحته افسد كل ما تبقى بعده.
لذلك كان الاهالى يوقدون شعلا من الزيت ليلا فوق اغصان اشجار الجميز حتى تخيف الوطواط ليلا فلا يقترب، وياسوء حظه من تنطفيء شعلته ليلا،لن يحصد ثمرة واحده.
#كرم_محمد_حربي
#الوطواط
أنت تقرأ
أحاديث المساء(قصص،خواطر،مقالات، قصائد)
Randomحرفٌ يكتبما تحدثه به الظنون، وحرفٌ يكتب من خيالات الشجون، وحرفٌ يرسمُ الحركات قصصا وحكايات، وحرف ثار على ما لايُريد فمات. هنا بيت القصيد، وبستان يفوح من عطر حروفه، هنا المعاني والسحر والدلال، هنا الشجن ودموع الحنين.