الحرية المسلوبة

199 15 3
                                    

دعوني أعرفكم بنفسي أُدعى يزن وبلغت عامي العاشر البارحة وأثر ذلك وعدني جدي بنزهة ، ها هو جدي الذي أمسك بيده ، رجل كبير لكنه ممشوق القوام يحافظ على لياقته البدنية ، يغزو الشيب شعره فتتراقص شعيراته مع نسيم الهواء الخافت ، ملأت التجاعيد وجهه لكنها لم تفقده وسامته ، يرتدي جلبابًا أبيضًا ومن أسفله بنطال فضفاض أبيض اللون أيضًا ومن فوق شعره المتطاير قبعة صغيرة تشبه قبعة الإمام الذي نصلي خلفه ..
أما عني فأنا طفل نحيل الهيئة ولكن جدي وعدني أنه سوف يساعدني حتى أصبح ممشوق القوام مثله ، لست بالقصير ولا بالطويل ، أمتلك عينان بنيتان ورثتهما عن جدي ..
لم أكن أعلم في حياتي سوى جدي وأبناء الحي فلقد سافر أبي وأمي إلى السماء منذ ما يقارب العشر سنوات فقد تكفل جدي برعايتي وقام بتقويمي وتهذيبي حتى أصلح أن أكون من أبناء هذا الحي الشجعان وأن أكون حفيد الشيخ صهيب ..
أخذني جدي في الباكرة وأخذنا نسير في طريق لم أراه يومًا ، التزم جدي الصمت طوال الطريق ، ظل يهمهم همهمات غير واضحة ولكنها على الأرجح أذكار لله سبحانه وتعالى ..
وقف جدي فجأة فإذا ببناية تتكون من ثلاث طوابق لكن القدم يغلب عليها ، تبدو وكأنها قد سقطت وبُنيت مرة أخرى ..
جلس جدي على كرسي أمام تلك البناية وطلب مني الجلوس أرضًا ففعلت ، نظر إلى البناية ثم بدأت دموعه في السقوط ، امتلأت العينان البنيتان بالمياه المالحة ، نظر لي وقال كان يوجد هنا محتل.
عفوًا جدي ! لا أفهم !!
قد أعتاد جدي على قصّ الحكايات والروايات لي ولكنه بدأ الآن في قصّ أسوأ رواية مرت على مسامعي ..
قال لى أن عمر هذه البناية كان يزيد عن مائة عامًا لكنها منذ عشر سنوات تعرضت للقذف القاسي الذي أودى بها أرضًا .. كانت تتكون من ثلاث طوابق ، الطابق الأول خاص بي و بجدتك رحمها الله وكان لدينا فيه خمسة غرف ، في الغرفة الثالثة كانت توجد هرة لونها أبيض ، كانت تحبنا وتسير ورائنا تلهو وتلعب ، الطابق الثاني كان خاص بأمك وأبيك رحمها الله وكان به 3 غرف فقط لأنهما كانا يحبان أن تنام أختك رغد -جعلها الله رحمة لوالديك- بجانبهما فقد تعلقا بها كثيرًا ، أما الثالث فكنت أوصده بالأقفال فكان مليئًا بذكرياتي التي لم يتطلع عليها أحدًا .. سواك.
منذ حوالي 10 سنوات كنا نتناول الطعام الذي أعدته جدتك لأن أمك لم تكن قادرة على الحركة بعد ولادتك وإذا بقذف على البناية وفجأة وجدنا النيران تشتعل في جسد أختك فهمت أمك لتحتضنها فاشتعلت ثيابهما معًا ، ما إن هرع أبيك إليهما ليسقط عليه حجارة السقف فتعلن عن تهشيم رأسه ، لم يصيب الأذى جدتك لكنها لم تتحمل فسقطت أرضًا مُعلنة نهاية حياتها التي عشناها سويًا ..
لم أدرك الموقف حتى انبطح المبنى أرضًا ، لم أشعر بشيئًا ، لم أكترث لصراخ من حولي ، لم أسمع سوى بكاء طفل ضعيف على يمينى ، نظرت إلى مصدر الصوت فوجدتك حينها التقطت أنفاسي ، فلم أخسر كل شيء ، لقد نجوت ونجوت أنت معي ..
لم أنسى المشهد مطلقًا وكان ينعاد عليّ كل ليلة في نفس التوقيت ..
كنت أخفي عليكَ الأمر ولكنك أصبحت رجلاً باسلاً تستطيع الدفاع عن موطنك إذا مسّه سوءًا ..
لقد قمت بترميم البناية ولكن لم يُرمم قلبي ..
لم تهدأ نار فؤادي التي اشتعلت حينها ولم تنطفئ حتى وقتنا هذا ..
بما أنك أتممت العاشرة فجئت بكَ إلى هنا لأعلمك شيئًا ، شيء سامي لا يُدرس شيء يسمى الحرية ..
إياكَ يا يزن أن تتعدى على حرية غيركَ ، إياكَ أن تسلب حق غيركَ ، إياكَ أن تعطي نفسك حقًا ليس لك به تحت مسمى الحرية ، فهى غالية سامية لا يصلها سوى من آمن بها ..
المحتل هنا كان يظن أن تلك حريته ، أننا من نعتدي على حقوقه ، لكنه أغتصب حريتنا ولسوء حظه أُنجبت الحرية الحقيقة ..
لا تغتصب حقًا لم يُشرع إليكَ يا يزن ..
كانت هذه كلمات جدي الأخيرة قبل أن تسكن روحه السماء ، كأنه كان يعلم بموعد رحيله فأتى بي أمام البناية التي فقدت فيها أمي وأبي وجدتي وأختي لأقوم بتوديع الشخص الذي كان لي كل شيء ، الشخص الذي علمني ورباني ، الشخص الذي سلب حريته ليعطيني إياها ..

_ جيهان سيد ♥️🌝

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 13, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

الحرية المسلوبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن