قيل لي ذاتَ يوم:
{ألا لَيت النَوايا تَصيرُ بيانًا}.كنتُ قد رأيتُ ما قيل لي مراتٍ مُتتالية في وجه (كارميلا) فائق الحُسن ، ووجه (ميلاركا) الذي يأسرُ القلوب ويغمرُ الأنفُس بدفء لا مثيل لهُ ، حتى تبيّن لي أخيرًا أن لا علاقة تربط بين الجمال وما يعتملُ داخل النفس من خبايـا وأسرار؛ حيثُ يمكن للجمال أن يكون—الشيطان الاكبر— بحد ذاته ولا يستطيع أي احد إدراك ذلك إلّا بعد حلول الطّامة الكبرى بما أُنزلت فتصبح خرائب وأطلال يخشى الناس دخولها لقرون.
لقد تم أحياء ذكرى مصّاصي الدماء مجددًا وفُتحت القبور التي غُرست في بقايا القِلاع المُهشّمه ، يُحيط بها الضّباب من كل حدبٍ وصوب ويحتضنها الرعب كما لو كانت وليدتهُ...
ستجد (كارميلا) طريقها الى الذاكرة بعد قراءة قصتّها مدى الحياة؛ فتارةً تراها تلكَ الأميرة ذات الجمال الأخاذ أو تلكَ الطفلة التي تحسبُ أن لا وجود لها من فرط هدوئها ورقتها ، وتارةً أخرى تراها شيطانًا مريدًا يحول دون استمتاعك بنومك فتعيشُ على رفات الجميلات ويصبحوا بذلك في عداد الموتى الذين اندرس إثرهم إلى أبد الأبدين. وفي النهاية سيتنفس الصعداء كل من القارئ والمترجم ، بل وحتى الرفوف التي ستحضن (كارميلا) كما احتضنتها صفحات هذا الكتاب دون أم تُلطّخ بالدماء.
لقد كانت كتابة شيريدان او فانو كتابة ذاتية خالِصه ، فهو منذُ بداياته يتطلع الى ان يكون أدبيًا حقيقيًا ، لا مُجرد حاكي يروي قصص رعب. ولنذكر هنا أنهُ كان يكتب الحكايات الغريبه والأشعار العاطفيه ذات الطابع الريفي ولِد عام (1814) في دبلن ، عاصمة ايرلندا ، ابنًا لعميد الكنيسه البروتستانتية الإيرلندية ، وكانَ لا يزال في المدرسة الثانوية حين بدأ بنشر قصائدهَ وقصصه الأولى في بعض الصُحف ، ولكن دائمًا بتواقيع مُستعارة.
عمل كمحامٍ لفترة استطاع بعدها الزواج من حبيبته سوزان ، ثم كتَب روايتين تاريخيتين على النمط الذي اشتهر به {والتر سكوت} .
وكان من شأنه أن يتابع على نفس النمط لو لا رحيل زوجته سوزان..
خلال السنوات التالية لأعتزاله في عام (1863) ، كتبَ خمسة عشر رواية والكثير من القصص متأثرًا بمفكر سويدي صوفي هو {سويدنبرغ} ، (1688-1772) الذي كانت فلسفته تقوم على فكرة قرين روحي ، أما الكائن المادي فليس في حقيقته سوى انعكاس لذلك القرين الروحي .
مع موت زوجتهُ الشابة إذًا ، توشح العالم كله بالسواد بالنسبة إلى شيريدان ، فما كان منه إثر ذلك إلا أن ينزوي في قصره الفخم في دبلن ، وقرر ان يمضي ما تبقى من عمره في الكتابه ، متحولًا في وحدته الى كتابة النصوص المملوءة بالأشباح والطاقات من العالم الآخر .
وهكذا حضرت كائنات المرايا بقوة في قصص شيريدان لو فانو وحكاياته ، وراح يكتبُ تلك الحكايات ذات المناخات الليلية ، واصفًا عالمًا غريبًا مملوء بالاشباح ومصاصي الدماء .
كام ذلك المؤلف المنعزل عن العالم وفق كاتبي سيرته ، يحرص على ان يكتب خلال الليل وقبيل بزوغ الفجر ، بقلم رصاص على دفتر مفتوح يضعه فوق ركبتيه ، مستعينًا بسنا شمعة .
وتروي الحكاية أنهُ ظل يكتب طوال السنوات خلال الليل لخوفه من أن يبعث نومه الأشباح ، وهو ضمن إطار ذلك المناخ كتبَ بعض اقوى اعماله ، ومنها طبعًا رواية (كارميلا) .
ولعلَّ الميزة الأساسية في رواية (كارميلا) تمكن في أن الكاتب حرص على ألا تمتلئ الصفحات بأي مؤثرات تحمل أي قدر من المُبالغة ، فالأمور والأحداث هنا تدور في شكل أقرب إلى أن يكون طبيعيًا ، لا صخب ولا ضجيج ، كل شيء يجري بهدوء ، وفي ألوان تقع بين الظل والضوء ، ذلك أن الدراما الحقيقية تدور داخل وعي الشخصيات ، لا سيما وهي الشخصيتين الأساسيتين: كارميلا وربة القصر ، أو بالأحرى بين حساسيتيهما ، من هنا نتج ذلك الجانب الحسي الغامض الذي يسيطر على الروايه ليعطي في نهاية الأمر عملًا يتسم بالثلاثي الشهير : (إغواء استحواذ تواطؤ).
وحين اكتشفت السينما رواية شيريدان لو فانو هذه ، حولتها على الأقل إلى ثلاثة افلام أهمها {فامباير} للدنماركي {كارل دراير} (1932) ، وأشهرها {الموت لذة } للفرنسي {روجيه فاديم} (1960) ، وثالثها وأقلها أهمية وشهرة وإن كان الأقرب الى الرواية الاصلية ، {عشاق مصّاصة الدماء} لـ {روي وارد باكر} (1972) .
والمُلفت للنظر أن الأفلام الثلاثة اقتربت ،
وأحيانًا أكثر مما يجب ، من الجانب الجنسي من الرواية الأصلية.
إن رواية شيريدان لو فانو اثّرت فيما كتبه {برام ستوكر} لاحقًا في {دراكولا} ، غير أن ستوكر لم يكن الوحيد المُتأثر ، بل إن عمل لو فانو هذا حركَ كُتابًا مُهمـين من أمثال {هنري جيمس} و {إميلي يرونتي} ، ممن أكدوا إن النظرة إلى (مصاصي الدماء) في الادب قد تبدلت كليًا ، لتضحى نظرة رومانسية تتفادى العنف لتركز على حساسية الشخصيات وذاتيتها ..
وكانت {كارميلا} من آخر الروايات التي كتبها شيريدان ، إذ مات في دبلن نفسها بعد عامين من إنجازها ، أي في عام (1873) وهوَ في التاسعة والخمسين من عمره .
أنت تقرأ
كارميلا
Horrorرواية "كارميلا" للكاتب "شيريدان لو فانو" ولِد جوزيف توماس شيريدان لو فانو في (28 اغسطس 1814)، وتم تصنيفهُ كاتبًا إيرلنديًا للحكايات القوطية وروايات الغموض وخيال الرعب حيث يُعد رائدًا لذلك المجال في القرن التاسع عشر؛ كما كان محورًا في تطوير هذا النوع...