الفصل الرابع
(حي ميت)عندما دخل هشام عطار في وقت متأخر من الليل إلى شقته .. قابله هدوء شديد جعله يبتسم بشيء من خيبة الأمل وهو يغلق الباب وراءه بحذر .. ويضع حقيبة أوراقه وحاسوبه المحمول جانبا
سار إلى الصالة وهو يحل ربطة عنقه .. ثم وقف وقد جمده ذلك المشهد الذي توقع أن يراه .. إلا أنه يثير مشاعره ويغمره بالعاطفة الجياشة في كل مرة يقع فيه بصره عليه
كانت زوجته أماني مستلقية على الأريكة غافية بعمق .. وقد سقط رأسها الأشقر جانبا .. وانثنت ساقاها تحت جسدها بوضعية مريحة .. وعلى صدرها .. تكوم جسد صغير التف ببطانية صفراء ناعمة .. تناقضت مع سواد الزغب الأسود الذي كسا رأسه المستقر بارتياح فوق كتفها ..
ابتسم بحنان وهو يقترب ببطء نازعا سترته الداكنة .. ملقيا إياها على إحدى الأرائك الصغيرة .. ووقف يتأملهما مليا ناقلا بصره بين وجه زوجته الجميل .. ووجه الطفل الصغير القمحي اللون .. المكتنز الوجنتين .. وتساءل عمن يبدو فيهما أكثر طفولة ونقاءا في هذه اللحظة .. مال نحوهما .. وربت برقة على وجنة أماني التي فتحت عينيها على الفور .. سرعان ما تخلل نظراتها الناعسة شوق كبير وبهجة عندما وجدته أمامها .. وضع إصبعه على شفتيه مشيرا بعينيه نحو الصغير .. ثم همس :- من الأفضل أن تضعي عمرو في سريره
حملت الطفل الصغير بحذر .. ونقلته إلى غرفته .. وفور أن أحكمت تدثيره داخل السرير ا لخشبي .. كان هشام قد لحق بها .. ووقف إلى جانبها متأملا ابنهما بصمت .. وكأنه مايزال غير مصدق حتى الآن للنعمة التي وهبها الله لهما منذ 3 أشهر فحسب .. وبعد عام واحد على زواجهما
همس لها :- اشتقت إليكما
رفعت رأسها إليه .. وتأملت وجهه الرجولي الوسيم بحب كبير .. ولاحظت الإرهاق الشديد الواضح عليه .. كان يغيب لساعات طويلة بسبب أعباءه الكثيرة .. ورغم شوقها الكبير لقضاء المزيد من الوقت معه .. إلا أنها كانت تحترم فيه الرجل المسئول الذي ما كان ليهمل واجبه نحو أعماله وموظفيه .
كانت تتمنى أحيانا لو تعود إلى العمل من جديد فقط كي تساعده وتخفف عنه حمله الثقيل .. وتكون قريبة منه .. إلا أنها ومنذ وضعت ابنهما الصغير عمرو .. لم تكن تطيق مجرد التفكير بفراقه للحظة واحدة .. رغم عرض حماتها السخي برعايتها له كلما أحبت أماني مغادرة البيت
إحساسها القوي والعنيف بالأمومة فاجأها بقوة .. إذ أنها ومنذ نجح هشام بانتزاعها من قوقعتها وإجبارها على حبه .. لم تتخيل أبدا أنها ستعرف أقوى من مشاعرها نحوه
والآن .. وهي تنظر إلى ابنهما النائم الذي يبدو نسخة مصغرة عن والدها .. متأكدة تماما بأنها مستعدة للتضحية بحياتها بلا أي تردد لتمنح أعز شخصين في حياتها .... السعادة
همست له :- نحن أيضا اشتقنا إليك كثيرا
أحنى رأسه بلا مقدمات .. وقبلها بتلك الطريقة التي كانت دائما توقظ كل ضعفها وأنوثتها أمام قوته وخشونته .. رفع رأسه وهو يقول :- لنخرج من هنا قبل أن نوقظ الصغير
أغلقا باب الغرفة الصغيرة المجاورة لغرفتهما بهدوء شديد .. قبل أن تسأله أماني :- هل أعد لك ما تأكله ؟
:- لقد تناولت شيئا خفيفا في المكتب .. لست جائعا .. إلى الطعام
جذبها إليه مظهرا لها رغبته القوية بها والتي لم تنضب رغم مرور سنة على زواجهما .. واتساع عائلتهما الصغيرة .. فأحاطت عنقه بذراعيها تبادله قبلاته بنفس اللهفة .. وإذ به يرفع رأسه فجأة سائلا إياها بمكر :- أم أنك تمانعين ؟
ضحكت .. إذ كانت تعرف كم يثيره إظهارها للهفتها عليه .. وهو ما فعلته بعدة طرق خلال الساعة التالية
وضعت يدها على صدره القوي .. وأحست بخفقات قلبه التي لم تهدأ تماما بعد .. وسألته بهدوء :- هشام .. ما الذي يزعجك ؟
نظر إليها .. إلى وجهها المتورد .. وعينيها اللامعتين .. إلى شعرها الذي شعثه الغرام .. لقد أثبتت أماني مرارا بأنها أكثر من يفهمه .. لقد كانت قادرة بطريقة ما على قراءة أفكاره .. واستشعار ذبذبات توتره دون حتى أن يتحدث .. وهذه المرة .. لم تخطئ فهم حبه العنيف لها .. وكأنه يفضي بهمومه إليها بطريقته الخاصة
قال بهدوء :- لا شيء مهم يا أماني .. لا داعي للقلق
رفعت نفسها مستندة إلى مرفقها .. ونظرت إليه قائلة بقلق :- كيف تطلب مني ألا أقلق وانا أراك وكأن هموم الدنيا تجثم فوق ظهرك
ابتسم بحنان .. وقربها إليه قائلا :- ليس هناك ما أعجز عن حله .. أخبريني أنت .. كيف كان نهارك ؟
فهمت رغبته في تغيير الموضوع .. فاستسلمت راغبة في محو كل المشاكل عن رأسه وقالت :- مميزا .. جاءت جودي لزيارتي .. وصدف أن كانت نورا في زيارة لوالدتك في الوقت نفسه
أطلق ضحكة قصيرة قائلا :- يا إلهي .. جودي ونورا معا في مكان واحد .. دون أن ينهار المبنى
ابتسمت بمكر قائلة :- ثم اتصلنا بسمر التي جاءت بدورها .. صدقني .. ما كنت لترغب بأن تكون موجودا
:- لقد كان تأخري جيدا إذن .. وإلا لكنت قاطعت جلسة نسائية مجنونة .. كيف حال نورا ؟
:- لقد وضعت قائمة جديدة بالأسماء المحتملة لتوأمها القادم .. هل ترغب بسماعها ؟
قال بشكل قاطع :- لا
إلا أنها قالت بابتسامة شيطانية :- تظن نورا بأن اسم هزبر يدل على الرجولة وقوة الشكيمة .. وسيمنح ابنها القادم هيبة أسدية لا يستهان بها .. أما اسم لبطة ...
لم يكن قادرا على التوقف عن الضحك وهو يقاطعها مرددا :- لبطة !!
:- تقول نورا .. بما أن الفرزدق لم يجد مشكلة في إطلاق هذا الاسم على ابنته .. فلماذا عليها هي أن تفعل ؟
أطلق ضحكة عالية هذه المرة .. اضطرتها لأن تضع يدها على فمه وهي تهتف ضاحكة :- ستوقظ عمرو
قبل يدها قبل أن يعيدها حيث كانت فوق قلبه قائلا :- هل أتعبك هذا اليوم ؟
:- لقد كانت خالته جودي موجودة ... وهذا يعني أنه قد قضى النهار كاملا محمولا على كتفها
قال معاتبا :- ستفسده أختك بالدلال
أطل الحنان من عينيها وهي تقول :- إنها مغرمة به .. ومتشوقة لإنجاب مثله .. رغم مرور ستة أشهر فقط على زواجها .. فهي تظن بأن تمام متلهف لإنجاب العديد من الأطفال بما أنه قد حرم من الأخوة
نظر إليها بحب شديد جعل قلبها يقفز من بين أضلعها .. وقال :- سيحدث هذا في النهاية .. ستمنحه أفضل هدية قد يحصل عليها رجل من المرأة التي يحب .. فيزداد حبه لها أضعافا .. كما حدث معي أنا بالضبط
التقت عيناهما بطريقة كادت تجدد تأجج مشاعرهما .. لو لم يعلو صوت بكاء عمرو قادما من غرفته يذكرهما بوجوده .. لم يظهر أحدهما أي تذمر للمقاطعة .. وكأنهما كانا في انتظارها .. وفي شوق إليها
قال هشام :- سأحضره أنا
راقبته يغادر الغرفة .. فتمددت بكسل واسترخاء فوق السرير وقد علت شفتيها ابتسامة رضا كامل .. وهي تتذكر السعادة التي غمرت حياتها مع هشام طوال العام الماضي
سعادة تمنت من كل قلبها أن يحظى الجميع من حولها ولو بجزء بسيط منها .. سعادة تمنت وأملت بشوق دون أن تستمر لأي مخاوف أن توقفه .. بأن تستمر إلى الأبد