الفصل الثاني عشر
الصحوةأحس صلاح بصداع رهيب وهو يتململ فوق فراشه .. مد يده يتحسس جبينه بإرهاق .. وكل جزء من جسده يكاد يصرخ ألما وتعبا .. كم الساعة بالضبط ؟
فتح عينيه ليفاجئه ضوء النهار الساطع القادم من نافذة غرفة نومه .. سرعان ما اتسعت عيناه .. إنها الظهيرة .. هب جالسا .. إلا أن دوارا جعله يعود ليرمي نفسه فوق الفراش مغمضا عينيه بقوة .. هل كان مريضا ؟ .. هذا يفسر استغراقه في النوم وهو الذي اعتاد أن يستيقظ مع أول خيوط النهار .. آخر ما يذكره .. هو التعب الشديد الذي كان يعاني منه أثناء عمله في مكتبه .. عندما قرر أخيرا أنه يجب أن يذهب إلى المنزل ويرتاح .. كيف وصل إلى البيت .. كان عاريا إلا من سروال قطني قصير .. نظر إلى المنضدة المجاورة للسرير .. فوجد مجموعة من علب الدواء مرصوفة مع كوب من الماء .. وميزان رقمي للحرارة .. عبس وهو يتأمل المكان حوله بريبة بحثا عن أي دليل .. كيف وصل إلى البيت ؟
استند على مرفقه في اللحظة التي فتح الباب .. ودخل رجل طويل القامة .. ابتسم فور أن رآه قائلا :- صباح الخير .. أرى أنك أفضل حالا الآن
تمتم وهو يعود ليتلمس رأسه :- تمام
قال تمام مداعبا :- آسف إن كنت تأمل رؤية شخص آخر .. حمدا لله على السلامة يا صديقي .. كيف تشعر الآن ؟
قال صلاح بصدق :- وكأن شاحنة قد مرت من فوقي
ضحك تمام وهو يجلس إلى طرف السرير قائلا :- هذا طبيعي بعد ليلة طويلة كنت غائبا فيها عن الوعي بسبب الحمى
عبس صلاح وهو يجاهد ليجلس وقال :- حمى !
قال تمام بلطف :- لقد كنت متعبا للغاية .. اضطررنا لإحضار الطبيب ليراك .. الحمد لله أنك بخير الآن .. يجب أن ترى جودي وهي تذرف الدموع قلقا وخوفا عليك .. لولا معرفتي بمدى تقاربكما الأخوي لشعرت بالغيرة
رقت ملامح صلاح وهو يقول :- جودي هنا ؟
:- تعد الإفطار في المطبخ .. لقد قضينا الليلة في غرفة النوم الإضافية .. فما كنا قادرين على تركك وحدك في هذه الظروف
عادة .. يكره صلاح أن يشهد أحدهم ضعفه .. إلا أنه في هذه اللحظة .. أحس بالامتنان لأن في حياته شخصين يهتمان لأمره كجودي وتمام .. عائلته الوحيدة .. قال ممتنا :- آسف لما تكبدتما من عناء بسببي .. أنا شاكر لكما
ربت تمام على كتفه قائلا :- أنت فرد من العائلة .. هل تشعر بأنك قادر على تناول الفطور في المطبخ ؟ .. أم ترغب بتناوله هنا
أسرع صلاح يقول :- في المطبخ برفقتكما بالتأكيد
عندما غادر تمام الغرفة .. كان أول ما فعله صلاح هو البحث عن هاتفه المحمول كي يتصل برشاد ليعرف تطورات أعماله .. فلم يجده .. عرف متذمرا بأن جودي هي من أخفاه .. بغريزتها الأمومية نحوه ونزعتها لحمايته من نفسه .. دخل إلى حجرة الاستحمام وأخذ حماما طويلا شعر بعده أنه أفضل حالا بكثير .. ارتدى ملابس خفيفة ونزل إلى المطبخ وقد جذبته ضحكة جودي الصافية وهي تتسامر مع تمام .. تنحنح مبتسما وهو يقول :- رجل غريب في الطريق .. من الأفضل أن تحتشما قبل دخوله
دخل ليجد الاثنان يقفان أمام الموقد .. متقاربان للغاية دون تلامس .. إلا أن الحميمية تنطق من كل اتصال عيني بينهما .. ابتسمت جودي وهي تقول موبخة :- دعابة سخيفة
أسرع تمام يقول ضاحكا :- إنما في محلها
ضربته جودي بالملعقة الخشبية .. فضحك بمرح .. استدارت نحو صلاح قائلة بقلق :- هل أنت بخير ؟ .. ما كان عليك مغادرة السرير .. كنت سأحمل الفطور إليك
رمى نفسه على أول مقعد خشبي وقد أحس فعلا بالدوار .. قال متماسكا رغم شحوب وجهه :- أنا بخير تماما .. مكوثي في السرير لن يزيدني إلا مرضا .. آسف لأنني قد أتعبتكما معي
جلس تمام بدوره حول ا لطاولة الخشبية العامرة بأصناف الفطور وقال :- لم تفعل .. هل هناك من يكره قضاء ليلة في مكان جديد ؟ .. كما أنها فرصة جيدة لتذوق فطور تعده جودي أخيرا
احمر وجهها بحنق حقيقي وهي تقول :- إن لم تسكت ضربتك .. أنت من يخرج كل صباح غير قادر إلا على احتساء فنجان من القهوة ..
عندما لامس صلاح رأسه وقد عادت الطرقات تضربه بلا رحمة توقف الاثنان عن المجادلة الطفولية .. واستبدلاها بحوار مرح محاولين تحسين مزاجه النزق أثناء تناول الطعام .. كان ينظر حوله دون أن يقول حرفا .. إلا أن جودي كانت يقظة تماما لنواياه .. قالت بحزم :- لا هاتف .. لا عمل .. حتى تتعافى تماما .. هذا ما قاله الطبيب
قال بغيظ :- هناك ما يحتاج لأن أهتم بأمره بنفسي
:- أنت تثق برشاد .. وقد تحدثت إليه هذا الصباح طالبة منه استلام مكانك ليوم واحد على الأقل كي تنال ما يكفي من الراحة .. وبعد أن تشفى تماما .. يمكنك أن تهلك نفسك في العمل مجددا
نظر صلاح إلى تمام قائلا :- هل تطاردك أنت أيضا طوال النهار كالدجاجة الأم .. أم أنني أنا فقط من أحظى بهذه المعاملة الفذة
بسط تمام كفيه عاجزا وهو يضحك .. ثم نهض قائلا :- سأتركك لمصيرك .. الذي جعلني أتمنى أن أمرض بدوري لأحظى برعاية مماثلة .. وأذهب لأنجز ما علي من عمل
نهض صلاح قائلا بامتنان :- أشكرك على كل ما فعلته لأجلي
:- لقد سبق وأخبرتك .. الشكر لك أنت على منحنا الفرصة لمغادرة البيت
عندما غادر تمام بعد أن ودع جودي .. جلس صلاح يحتسي ما تبقى من كوب الشاي .. بينما وقفت جودي تنظر إليه بطريقة جعلته يرفع رأسه بانزعاج قائلا :- قولي ما لديك دون مواربة
ابتسمت .. فقد أحس بأنها تنوي مشاكسته .. قالت بهدوء :- ألن تسألني عنها ؟
قطب قائلا :- عن من ؟
:- فتاتك الصغيرة
ترك كوبه وقد أحس بأنه يغرق في دوامة :- أي فتاة ؟
تململت في وقفتها قائلة بنفاذ صبر :- لا تقل لي بأنك لا تذكر أي شيء عن الفتاة التي أوصلتك إلى البيت عندما كنت في أسوأ حالاتك
أحس صلاح باللون ينسحب من وجهه .. وهو ينظر إلى جودي تحدق به بلهفة منتظرة ردة فعله .. فتاة صغيرة .. فتاة سمراء ذهبية العينين .. ترجوه أن يساعدها كي تتمكن من إخراجه من السيارة .. يد رقيقة تلمس جبينه .. وتساعده على النهوض لاحتساء الدواء .. رائحة الياسمين .. تبا
نهض وقد احمر وجهه غضبا .. فتح أحد الأدراج ليخرج علبة سجائر جديدة .. راقبته يشعل سيجارة وهي تقول بحدة :- لن تدخن في وجودي
قال بلهجة لاذعة :- وما الذي سيمنعني ؟
:- ذكرى والدي .. الذي كنت ترفض التدخين في وجوده احتراما له
سحب نفسا عميقا من سيجارته .. ونفثه بعنف .. ثم استدار نحوها قائلا بجفاف :- حسنا .. لم يعد عمي موجودا
قالت متجاهلة وقاحته :- .. يبدو أنك قد تذكرت الفتاة .. وقد أزعجتك الذكرى .. من تكون لندا هذه ؟
إذن .. فالأمر صحيح .. أغمض عينيه بقوة وهو يشعر بالغضب والإحباط .. يكره أن يشهد أحدهم لحظات ضعفه النادرة .. وأن تشهد تلك الفأرة المذعورة مرضه ... وأن تساعده كالطفل الصغير العاجز .. يمنحه الرغبة بتحطيم شيء ما .. قال باقتضاب :- ليست شخصا مهما .. موظفة لدي .. لا أعرف حتى اسمها
عرفت جودي بأنه يكذب .. فهي لم تخطئ غضبه الشديد .. وعصبيته وكأن ذكرى تلك الفتاة تزعجه ..
تذكرت الفتاة الرقيقة والمتوترة .. إن كان هناك أي شيء يجمع بين صلاح وتلك الفتاة .. فإن جودي تشفق عليها .. لأن صلاح يمكن أن يكون قاسي وبارد وبلا رحمة عندما يتعامل مع شيء يستعمله دون أن يريده .. كما يمكن أن يكون وحشا بلا ضوابط إن تورط قلبه في الأمر .. وتجاوز حدود الرغبة .. في كلي الحالتين .. فإن تلك الفتاة .. ستكون خاسرة .. وما ستخسره .. لن يقتصر على قلبها .. بل سيمتد إلى حياتها كلها
تحب صلاح .. وتعتبره عائلتها الوحيدة بالإضافة إلى أماني وهشام وعمر الصغير .. إلا أنها لا تتعامى عن أخطاءه .. حب صلاح يمكن أن يكون مدمرا .. بل هو فعلا ذو تأثير مدمر على كل من يحتك به ..
تمتمت :- إذن .. فهي واحدة من كثيرات
قال محذرا :- جودي
لوحت بيديها قائلة :- لا تقلق .. لن أعلق على حياتك الحافلة .. أنت رجل بالغ وتستطيع فعل ما تشاء .. ولكنني سأطالبك بأن تنظر ولو لمرة إلى المسار الذي تتجه نحوه حياتك يا صلاح .. ألم تتساءل يوما عن الجدوى الذي تعيش لأجله ؟ .. عما تبذل لأجله كل هذا الجهد إلى حد المرض في العمل .. متى سيتوقف تدمير صلاح النجار عن أن يكون هدف حياتك ؟
أطفأ سيجارته بعنف وهو يقول بنزق :- بحق الله يا جودي .. بدأ دور الأم الذي تقومين به يصبح مزعجا
.. أين هاتفي ؟ ... أنا بحاجة إليه
بحث بعينيه في أرجاء المطبخ الواسع .. بينما تابعت هي كلامها دون اهتمام باعتراضه :- لقد تجاوزت الثلاثين يا صلاح .. لقد حان الوقت لتفكر بالاستقرار .. بإنشاء عائلة .. لطالما كانت هذه أمنية والدي .. أن يراك مستقرا .. أن تنجب له الأحفاد القادرين على حمل اسم العائلة من بعدك
قال صلاح ساخرا وهو يفتح الخزائن بعنف :- حسنا .. لن تكون أول أمنياته التي لم تتحقق ..
عرفت قصده .. وميزت المرارة الدفينة في صوته .. قالت بصوت أجش :- يجب أن تنسى يا صلاح .. يجب أن تبني حياتك من جديد .. أنا لا أحتمل أن أراك بهذا الشكل . حزينا .. وحيدا .. وكارها لنفسك وحياتك بهذا الشكل
وجد هاتفه داخل أحد الأدراج .. فاستله أمام عينيها اليائستين .. وقال متهكما :- صدقيني .. أنا سعيد بحياتي كما هي .. لا هموم .. لا مشاكل .. لا مسؤوليات إلا نفسي
غادر المطبخ .. فلحقت به إلى مكتبه .. وبينما هو يفتح الهاتف ويحاول الاتصال برشاد صاحت من خلفه :- ماذا عن أماني يا صلاح .؟
تجمد صلاح .. ونظر إلى هاتفه الذي كان يرن في هذه اللحظة .. وكأنه غير موجود .. عرفت بأنها قد أثارت اهتمامه أخيرا .. اخترقت قناع اللامبالاة الذي كان يرتديه .. قالت بيأس :- ألا تفكر بها مطلقا ؟
أقفل الهاتف .. واستدار نحوها قائلا بغلظة :- ما بال أماني ؟ هي ليست بحاجة إلي بعد الآن .. إنها سعيدة مع زوجها وولدها الصغير .. راضية بنزعي تماما من حياتها وكأن لا قرابة تجمع بيننا .. ما الذي تريده أماني مني ؟
هزت رأسها قائلة :- هل تظن أماني رغم حياتها السعيدة مع هشام .. تشعر بالأمان الكامل يا صلاح ؟ .. لا .. أماني ترى الكوابيس يوميا .. تنظر حولها أينما ذهبت .. ما تزال تراك تهديدا لها ولسعادتها يا صلاح .. تاريخكما المشترك والمظلم يجبرها على هذا .. هي تخافك .. تنفر منك .. ترفضك في حياتها .. ولا أحد يستطيع لومها على هذا
تصريحها القاسي أصاب صلاح في الصميم .. راقبته بألم .. وقد زال توتر فمه .. وارتسم الجرح القديم في عينيه الخضراوين .. هي تعرف كم يتعذب .. كم يعاني كل يوم وكل ساعة وهو يرى المرأة الوحيدة التي أحبها قد أصبحت ملكا لرجل آخر .. إلا أن عذابه هذا .. لا يضاهي بأي شكل .. عذابه لرفضها إياه .. وإقصائها عنه بلا رحمة .. هو يعرف بأنه يستحق كراهيتها وازدرائها .. ولكن صلاح مفطور على تقديس العائلة .. وأماني شاءت أم أبت .. جزءا منه .. دماءها تجري في عروقه .. وعجزها عن الصفح عنه .. يقتله .. إذ أن كل ما يريده الآن .. كل ما يتمناه .. هو أن تسمح له بأن يصبح جزءا ولو هامشيا من حياتها وحياة ابنها ..
قال أخيرا بصوت مهزوز :- لقد منحت أماني ما تريده بالضبط .. لقد خرجت تماما من حياتها .. ما الذي تريده أكثر
قالت بمرارة :- هذا لا يكفيها يا صلاح .. هي تعرف بأنك ما زلت تفكر بها .. تظنك هناك .. واقفا في الظلام في انتظار الفرصة للانتقام من رفضها لك .. لن تمنحك أماني الثقة .. لن تصفح حقا .. حتى تعرف بأنك قد أخرجتها تماما من قلبك وعقلك .. وهذا لن يحدث إلا في حالة واحدة .. أن تحل امرأة أخرى مكانها .. أن تبني عائلة تثبت لها بها بأنك ما عدت تريد منها شيئا إلا أن تكون سعيدة كما أنت سعيد بحياتك الجديدة
أحس بالضعف في ساقيه .. فجلس على أقرب مقعد جلدي وهو يمسك رأسه بين يديه .. اقتربت منه .. وجثت على الأرض أمامه .. أمسكت يديه وأبعدتهما لتجبره على النظر إليها .. عندما رأت الإرهاق والألم .. والوحدة القاتلة في عينيه .. رغبت بأن تضمه إلى صدرها .. أن تمنحه ما يحتاج إليه من حنان .. لماذا لا يستطيع ابن عمها أن يجد السعادة بدوره كما فعلت هي وأماني .. لماذا قدر له أن يكون رجل امرأة واحدة .. لماذا حكم على قلبه أن يذبل ويموت وحيدا .. دون أن يعرف معنى أن يحب المرء .. وأن يحب بالمقابل
همست بعاطفة عميقة :- أطلق سراح قلبك يا صلاح .. ابحث عن ضالتك بعينين مفتوحتين فقد تجدها حولك دون أن تدري .. إنها هناك .. في انتظار أن تفتح لها الباب .. وتمنحها ذلك الحب ا لذي أعرف بأنك تحمله في قلبك .. والعطاء الذي تتوق لأن تمنحه لمن يستحقه
ثم ابتسمت بتردد قائلة :- تلك الفتاة .. لندا .. إنها تهتم لأمرك فعلا .. لقد كانت قلقة .. وقد ظلت إلى جوارك رغم ما قد يسببه لها هذا من حرج أمام عائلتها والمجتمع .. حتى تتأكد بأنك لن تكون وحيدا في حالتك الصعبة .. أرأيت .. هناك فتيات صادقات .. محبات ويستحققن أن يحبهن رجل رائع مثلك في كل مكان إن بحثت جيدا
لاحظت بأن اليأس .. والمرارة .. قد غادرا عينيه .. التين تجمدتا وهما تحدقان بوجهها دون تعبير .. همست بقلق :- صلاح
وقف فجأة .. وابتعد عنها وهو يمرر أصابعه على فكه الخشن .. غارق في التفكير .. فوقفت قائلة :- آسفة إن كنت قد تجاوزت ..
قاطعها قائلا بهدوء :- لا .. لا تندمي على إظهارك الاهتمام نحوي ..
نظر إليها قائلا وعلى شفتيه ابتسامة جانبية طمأنتها :- أسعد دائما عندما أعرف أهميتي لديك .. وما تقولينه .. هو الصواب بعينه .. لقد فاجأتني لا أكثر .. أنت وتمام .. عائلتي الوحيدة .. وأنا ممتن لوجودكما حولي .. وتذكيركما لي دائما بأن الحياة لا تقتصر فقط على العمل .
لوح بهاتفه قائلا :- هل تسمحين لي الآن بإجراء هذه المكالمة ؟
ضحكت بارتياح قائلة :- نعم .. لديك فرصة حتى أعد فنجاني قهوة لنشربهما معا .. ثم سأنتزع الهاتف منك مجددا .. ولا تحاول مناقشتي
تركته وحيدا في المكتب .. لو أنها ألقت نظرة أخيرة من فوق كتفها أثناء خروجها .. لازداد قلقها على صلاح أضعافا .. إذ أن التعبير الذي ارتسم في عينيه .. لا يمكن وصفه إلا بالمخيف