الفصل الثلاثون
شيء في المقابلدون أن ترفع رأسها حتى عن وسادتها .. نظرت منى إلى العصافير التي وقفت عند حافة نافذتها المفتوحة .. تغرد فرحة بالصباح الجديد .. تتقافز على الحافة بمرح .. داعية إياها لاقتناص نصيبها من بهجة النهار ..
في وقت آخر .. كانت منى لتنهض بسعادة .. مستمتعة بزقزقة العصافير ... لنزلت إلى المطبخ .. وأعدت فنجانا من القهوة .. واحتسته في الحديقة .. على الأرجوحة الكبيرة التي ظللتها وريقات الأشجار عطرة الرائحة .. ولتأملت بشوق ألا ينتهي هذا النهار دون لقاء عابر مع حبيبها .. دون سماع صوته على الأقل .
ولكن ليس اليوم .. قطعا ليس اليوم .. ولا في أي يوم قريب ..
أسرعت تمسح رموشها المبللة عندما سمعت طرقات الباب المختصرة .. والتي تلاها دخول والدتها وصياحها المستنكر :- أمازلت هنا يا منى ؟ .. لقد تجاوزت الساعة التاسعة .. لم يسبق أن تاخرت بهذا الشكل عن دوامك في المدرسة .
جلست منى وهي تبعد شعرها الكثيف عن وجهها .. وقالت :- لن أذهب إلى المدرسة ..
اتجهت والدتها نحو النافذة .. وأغلقتها بحدة أخافت العصافير الصغيرة وأطلقتها بعيدا .. ثم استدارت قائلة :- هل أنت بخير ؟ .. هل تعانين من زكام أو ما شابه ؟ لن استغرب هذا ونافذتك مفتوحة طوال الليل كما أخمن ... ارتاحي يا حبيبتي .. وسأرسل لك الخادمة بإفطار مغذي .. لست مضطرة للذهاب اليوم
تمتمت منى :- أنا لن اذهب اليوم .. أو في أي يوم آخر
تسمرت أمها مكانها غير مستوعبة كلمات منى .. قبل أن تقول :- ماذا تقصدين ؟
:- لن أذهب إلى المدرسة بعد الآن .. لقد مللت من هذا العمل .. تعليم حفنة من الطالبات المتمردات .. والتظاهر أمامهن بالتماسك والحزم .. لم يعد مسليا بعد الآن ..
ارتبكت والدتها قائلة :- لا تتسرعي يا حبيبتي .. أعرف كم تحبين عملك .. يمكنك أخذ إجازة طويلة .. تريحين خلالها أعصابك .. ثم تعودين بعدها ..
قاطعتها منى بنزق :- أنا لا أحتاج إلى إجازة .. لقد اتخذت قراري منذ أيام .. وقد أبلغت المدير به بالأمس .. أنا لن أعلم بعد الآن .. لا أعرف لماذا تنظرين إلي وكأنني أرتكب خطيئة كبرى .. أنت من كنت تعترضين على عملي هناك وتظنين بأن فتاة مثلي يجب ألا تهدر حياتها في وظيفة لا مستقبل لها .. في وقت لا تحتاج فيه أساسا إلى العمل لتعيل نفسها
نهضت من السرير بتثاقل وهي تقول :- و والدي سيكون مسرورا هو الآخر بهذا الخبر .. أخبريه ألا يتأمل الكثير .. أنا لن أعمل معه في المستشفى حتى لو قضيت حياتي كلها عاطلة بلا عمل .
دخلت إلى الحمام مغلقة الباب ورائها تاركة اليأس يعذبها .. لقد أساءت معاملة والدتها بدون وجه حق ... لا ذنب لها في أنها قد فقدت كل حافز للحياة .. وكل أمل في السعادة .. أنها تشعر كمن انتزع قلبه من بين أضلعه .. و ألقي على قارعة الطريق ميت حي .. يشعر ببرد شديد ينخر عظامه وكأنه لن يعرف الدفء الحقيقي بعد الآن
لا ذنب لها في هجر عادل لها .. حتى وقد كانت منذ سنوات أحد كارهيه ومعارضيه .. بل ربما تعجب به قليلا عندما تعرف بالطريقة الفظة التي أنهى فيها كل شيء بينهما ..
أغمضت عينيها بقوة تاركة دموعها تسيل من عينيها بغزارة .. سرعان ما بدأ تنشج بألم وهي تنهار فوق الأرض الباردة للحمام .. ضمت نفسها بذراعيها .. وبكت طويلا حبها الضائع .. لماذا .. لماذا فعلت بي هذا يا عادل .. لماذا أدخلتني الجنة لأيام .. وعلمتني معنى أن أكون حبيبتك .. ورفيقة روحك .. امرأتك الجميلة المرغوبة .. ثم رميتني مجددا ؟
إن كان الأمر صعبا في المرة الأولى قبل سنوات .. فإنه قاتل هذه المرة ..
شهقت وهي تهتف بألم :- قاتل .. أنت قاتل .. لقد قتلتني .. قتلتني
من وراء الباب المغلق .. كانت أمها تقف هناك .. تستمع إلى بكاء ابنتها المرير .. وجسدها يرتعش ألما ولوعة على حزن ابنتها التي كانت دائما قوية ومتماسكة كما لن تكون هي أبدا
ابنة والدها .. منى الشاطر .. ابنتها صاحبة الكبرياء والثقة في النفس .. تنهار في الخفاء .. رافضة أن تحظى بأي دعم من والدتها .
لماذا ؟ .. لماذا يا صغيرتي ؟ .. هل أبعدتك عني بسعيي المريض نحو تعزيز مكانتي أمام الناس مستعملة إياك .. أنت .. ابنتي الوحيدة .. فرحتي وسبب وجودي .. منذ عرفت بأن أول أبنائي قد أصبح معاقا .. وأنني لن أنجب بعدك أبدا ؟
هل قتلتك أنا برمي ضعفي أمام والدك فوق كتفيك ؟ .. بخوفي من قوتك .. من إصرارك على بلوغ هدفك .. كما لم أجرؤ أنا يوما على أن أفعل ؟
بصمت كي لا تشعر ابنتها بانتهاكها لخصوصيتها .. سارت مبتعدة .. وقد فقدت خطواتها لأول مرة .. رونقها وأناقتها ..