ضبابيّ

59 5 0
                                    

مادلين

العالمُ في نقطةٍ ما يبدو مُوحشاً ومُشوشاً مهما كَسَتهُ الفرحةُ وإدعاءُ السعادةِ، وكُلُ الألوانِ التي تَتحرُكُ حولكَ لربما تَبدو رماديةً مُظلِمةً في ثَناياها. قد لا نَعلمُ أيُ لحظةٍ تحديداً تَكونُ الفاصلَ بينَ إدعاءِ السعادةِ ومحاولاتِ الشفاءِ وبينِ لحظاتِ التناغُمِ مع ألحانِ الاستمراريةِ، ودَمعاتِ الاصطِدامِ بالحُزنِ الذي هرَبنا مِنهُ طَويلاً.

هُناكَ يَقِفُ هو في رُكنٍ بَعيدٍ عنِ الازدحامِ، ويبدو أنهُ يُراقِبُني، ودونٍ عن إرادَتي ثَبُتت عيناي في عَينيهِ لثوانٍ فَفَاضَتْ عيني بدَمعةٍ سريعةٍ تَزامنَتْ مع مُرورِ لَحظاتِ انكساري بِداخلِ قَلبي. الألمُ لهُ وقعٌ غريبٌ على الروحِ يجعلُكَ تَهرَعُ هَرباً مِنهُ، بينما يُنزلُ ألوانَ العذابِ على قلبِك.

لا يُمكِنُ أن أبوحَ بانكساري حتى لنفسي، ومهما راودَتني مَشاعري لأُفصِحَ عنها ومهما سَاقني إليهِ الشوقُ، كيف أخبرهُ عن كُلِ ما حطَّم بِداخلي، كيفَ أُخبرهُ عن الليالي التي لازَّمتني فيها دُموعي وآلآم صَدري، وكل رَغَباتي العارمةِ في الصُراخِ بوجههِ مُتسائلةً "كيفَ يترُكُني؟ وهل كان هذا سَهلاً لذَلكَ الحدِ الذي لا رَجعةَ فيهِ؟ أَتناسىَ كُلَ أوجاعي التي أخبرتهُ عنها ليمسيَ واحداً مِنها؟ وكيف لم يَعقِّل أنَ رحيلهُ أشدُ مَخاوفِي!!
أكانَ سَهلاً أن يعلمَ بأنَني انكسرُ كل ثانيةٍ ولا يأبهُ لدموعي، وانفطارِ قَلبي؟ وهل كنتُ في الأصلِ شيءً لهُ ليُفكِرَ بي أو يذكُرَني؟"

كُل المراتِ التي تخيلتُ فيها أن أهرعَ إليهِ لأهجوهُ لنفسهِ، وأشكوا إليه مآل أحوالي، وضعفَ قلبي ومشاعري، ألقيتُها خلفيَ بينما تَعمدتُ المرورَ أمامهُ وكَأني لا أراهُ، وخرجتُ في خطواتٍ غير متزنة بين الهَرعِ والثباتِ، ونسيت أن أُلقي السلام على صديقتي صاحبةُ العيد ميلاد الذي كنتُ فيه. كل تَركيزي كان على كَوني لا أريدهُ أن يعلمَ أنهُ لازال يعني لي شيئاً وهذا واقعي فعلاً، على الأقل أعلم أنه لا يستحقُ أن يدري عن آثارهِ بداخلي.

هرولتُ إلى الطريق مسرعةً، لا أودُ أن أستقلَ سيارةَ أُجرةِ، لتُعيدني إلى مَنزلي، لا أودُ أي شيءٍ سوى أن يخّتَفي العالمُ الذي قد يجمعُني بهِ، وأن يتلاشى من داخليَ كلياً ويكُفَ عني الحنينُ، وتكُف عني ذكرياتي.

كان دائماً ما يخبرُني أنني لا أشبهُ أياً من العابرينَ في حياتهِ، وأنني في غايةِ التميُزِ، وشدةِ الحُسن قلباً وقالباً ولكنه لم يكُن ينفكُ عن إخباري بتِلك الحكاياتِ عن كلِ من فطرَ قلبهُ وتَركهُ وحيداً وأنه كانَ يُعطي كُل شيءٍ ومِن كثرةِ عطاءهِ نَضبَت مَشاعرهُ وطاقتهُ، ولكن شيءً بي يُحيه، أَفَقدتُ قُدرتي على مَنحِ الحياةِ لهُ فمنعتُ مِن قَلبهِ الحُبَ؟ وهل أَحبني مُسبقاً حتى؟
لم يكُن مُدركاً أنهُ لا يرى أحداً فيَّ غيرَ نفسهِ، وكان هذا أكبرُ أشباحي التي تُطاردُني، في لحظةٍ ما سيترُكُني قبل أن أترُكهُ، في لحظةٍ ما سيهرَعُ راحلاً عن حياتي، أهو هلعٌ من الالتزامِ أم أنني غَيرُ كافيةٍ لا أدري.

ضبابيّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن