المقدمة
عندما يتذكر الطريقة التي بدأت فيها الحكاية ... لا يستطيع منع نفسه من الضحك ...
.... الضحك عجبا لما يظن المرء نفسه قادرا على فعله في مواجهة قدر مكتوب منذ الأزل ...
.... الضحك عجبا من كبرياء شاب ساذج أغراه ما امتلكه .. وحظي به .. فظن نفسه منيعا لا تطوله لسعات قهر محتوم كأي فان آخر ...
في الواقع .. داخل أعماقه الشابة .. تلك التي كانت قد تجاوزت السادسة والعشرين بالكاد ... كان يحسب نفسه خالدا في عالم تكدس بالفانين ..
ساذجا ... مغرورا ... احتاج إلى ضربة حجر على رأسه كي يسقط من علائه فيدرك أنه لا يختلف عن غيره ..
بأنه ضعيف .. وهش .. فور أن يقع في مطب كتب عليه أن يقع فيه ..
باريس ... قبل خمس أعوام ...
يبدو الحدث وكأنه قد تم لتوه .. وكأنه قد وصل لتوه إلى العاصمة الفرنسية حيث قرر المرور لرؤية والديه المقيمين فيها خلال تولي والده منصب السفيرهناك .. في طريقه عائدا إلى الوطن ..
الدعوة كانت ملحة من والدته ... أشواق لا تنتهي وابتزاز عاطفي مدروس أصابه في الصميم عندما ألمحت له إلى كونه ابنها الوحيد بعد موت شقيقه الأكبر قبل سنوات طويلة تحت تأثير المرض ..
ابتزاز تركه هشا .. عاجزا عن الرفض وهو ينهي المكالمة مع والدته ليتصل بمساعدته الشخصية طالبا منها تحويل مسار سفره ..
بطريقة ما ... موت شقيقه قبل ست عشرة عاما ... وضع حملا ثقيلا فوق كتفيه .. كان في العاشرة من عمره فقط .. إلا أنه أحس وكأنه يدين لوالديه مقابل بقائه هو حيا .. الطفل النحيل الانطوائي ... في حين مات ابنهما البكر الأكثر تألقا وذكاءً ..
هو لا يمانع حمل ذلك العبء إطلاقا إذ أنه لا يشك أبدا بمحبة والديه له ..
إلا أن الدين مهما كان كبيرا ... فإن هناك قدرة لا يمكن للمرء تجاوزها في سبيل رده ..
وذلك النداء العاجل الذي أحضره إلى باريس لم يكن عائدا الى الشوق وحده ... لا .. هو لم يكن خالصا على الإطلاق ..
وهو حين خطا بقدميه تحت سماء باريس سعيا خلف رضى والديه .. لم يعرف أن هذه الرحلة العابرة كان مقدرا لها أن تغير حياته كلها .. ضربة حجر ..كل ما تطلبه الأمر ضربة حجر واحدة .. كي يسقط عاجزا تحت سحرها ...
عاد إلى واقعه ... إلى وقته الحاضر .. وهو يتأمل عبر نافذة سيارته المرصوفة بتحفز في بقعة غير مرئية إنما استراتيجة للمراقبة أمام بوابة مطار أتاتورك الدولي ... الشخصان الذان تجاوزا الباب نحو سيارة كبيرة كانت في انتظارهما بالذات ...
رجل طويل القامة ... قوي البنية .. كان يجر عربة حملت القليل من الحقائب ... إلا أنه لم يكن ما استحوذ على اهتمامه وكل انتباهه ... بل كانت الفتاة السائرة إلى جانبه .. بسيطة الثياب .. بشعر معقود خلف رأسها على شكل ذيل حصان .. وعينين يعرف يقينا أن لونهما بلون البندق .. مشتتة الذهن .. ضائعة والرجل يقودها إلى السيارة التي قفز السائق منها برفقة رجل آخر .. ليساعداه على تحميل الأمتعة .. وفتح الباب الخلفي لها ..
مشتتة .. ضائعة .. خائفة .. وجميلة ..
ومحرمة عليه ..
من مكانه القصي .. راقبها تعتلي السيارة على إثر كلمات موجزة وجهها نحوها الرجل العبوس المرافق لها .. بدت له وهو يراقبها من بعيد كالسجين حين يقاد عنوة إلى منفاه القصي .... لقد بدت له كفأر واقع في الفخ .. وكانها محاصرة .. وقد كانت كذلك .. لقد كانت محاصرة به ... سجينة به ... كما كان سجينا بها تماما
راقب السيارة وهي تنطلق مبتعدة .. مختفية عن أنظاره .. إلا أنه لم يتوقف عن التحديق في إثرها حتى سمع صوت سائقه يقول بهدوء :- هل ننطلق الآن يا سيد فراس ؟؟
نعم .. ربما هو ما يزال قادرا على التجول بجسده والانتقال به أينما رغب ... ولكن ... ما الفائدة إن كانت روحه ما تزال عالقة منذ خمس سنوات حيث سبق وسجن بيده روحها ؟؟ إن كان ما يزال أسير رسائل كلماتها من سراب ...رسائل أبلاها الزمن .. إنما ما تزال محفورة داخل قلبه .. وكأنها قد خطتها لتوها بحبر كراهيتها الذي لا يمحى أبدا ..
قال بصوت مكتوم لا حياة فيه :- نعم ... لنذهب من هنا ..تم تنزيل المقدمة بحمد الله