الفصل الاول

1.3K 33 0
                                    


الفصل الاول


فتح عينيه فجأة بدون إنذار ... مستيقظا من ذلك الحلم الأسود الذي كان يأبى إلا أن يكرر زياراته له بين كل ليلة وأخرى .. حلم أسود ... كان هذا الوصف الوحيد الذي تمكن من الخروج به من كل محاولة منه لتذكر تفاصيله ...
حلم أسود .... كلون شعرها الفاحم كجناح الغراب .... كسماء ليلة صيفية غاب عنها القمر ...
أدرك مجفلا بأن سبب يقظته المفاجئة .. وصحوته المرغوب بها جدا من حلمه الغامض ذاك كان الأزيز الخافت لمنبه هاتفه الذي رماه قبل أن ينام فوق المنضدة المجاورة لسريره ..
إنه أزيز المنبه إذا .. لا خفقات قلبه كما ظن حين فتح عينيه ..
مد عزيز يده متخبطا في الظلام نحو الهاتف ليطفئ أزيزه .. ويحدق مشوش الذهن في الساعة ليغمض عينيه من جديد سامحا لنفسه بلحظات قليلة يستعيد خلالها رباطة جأشه ... من الأفضل له أن ينهض قبل أن تقتحم عليه والدته الغرفة موقظة إياه كي يصلي الفجر ...
تحرك بتثاقل ناهضا من فوق سريره المنفرد الذي احتل جزءا كبيرا من غرفته الصغيرة ... أصغر غرفة في الشقة التي انتقل إليها برفقة والدته وشقيقته بعد وفاة والده منذ سنوات ... وقد اختارها مقدرا حاجة شقيقته الصغرى فرح .. الفوضوية والمصابة بمرض حب الاقتناء للمساحة التي توفرها لها الغرفة الأكبر ..
غرفته كانت فقيرة المحتويات .. سرير منفرد إنما كبير بما يكفي ليناسب حجمه الضخم .. خزانة ملابس خشبية بثلاثة أبواب كانت كافية لاحتواء متعلقاته القليلة ..
إذ لم يكن قط بالشخص المهتم بالأمور المادية ... حتى وهو يعمل جاهدا في صيدليته التي ورثها عن والده .. كما ورث عنه مهنته التي درسها حبا وتعلقا بها منذ كان والده يصطحبه طفلا معه إلى عمله .. سامحا له متسليا بالتعاطي مع الزبائن تحت إشرافه مختبرا قدرته على التقاط المعلومات منه ...
ربما ورث عن والده قلة اهتمامه بالماديات ... إلا أنه كان مختلفا عنه أيضا فلم يرث عنه ميله للادخار واستثمار أمواله في مصادر دخل طويلة الأمد ... بل كان يميل لبذل كل ما يستطيعه في سبيل إسعاد كل من والدته وشقيقته منذ وفاة والده ... فكان التخلص من الشقة البسيطة التي ولد فيها وعاش فيها والداه منذ زواجهما أول خطوة قام بها بعد وفاة أبيه .. منتقلا إلى شقة أكبر .. في منطقة أكثر رقيا ... مؤمنا بحق والدته بعيش مريح بعد حياة الكفاح التي عاشتها إلى جانب زوجها ...
والده لم يكن بخيلا تماما ... لقد كان بعيد النظر أكثر مما يجب ليس أكثر ... ومؤمنا بالعمل والعمل .. وحرمان الذات من ملذات العيش لأجل مستقبل مضمون ..
وهاقد مات قبل أن يتم الخمسين من عمره ... تاركا عزيز ليقرر بأن الأوان قد آن لوالدته كي تحظى بذاك المستقبل الذي وعدت به طويلا .. حتى وهي ترفض تلقيه برحابة صدر وقد اعتادت على العمل طوال سنوات حياتها ..
فتح باب غرفته ليسمع صوت همهمة مكتومة قادمة من غرفة فرح حيث كانت والدته تحاول إيقاظها على الأرجح ... دخل إلى الحمام ليتوضأ .. ثم خرج ليجد فرح أمام الباب ... تغمض عينيها بشدة وهي تتلمس طريقها نحو الحمام مما جعله يدير عينيه سأما من محاولتها اليائسة والمعتادة للإمساك بنومها خوفا من أن يطير منها قبل أن تكون مستعدة للاستيقاظ ..
كانت والدته تصلي بالفعل عندما عاد إلى الصالة ... وعندما أنهى هو صلاته ... كانت تجلس فوق الأريكة القديمة و المريحة التي تصر بعناد على الاحتفاظ بها ... تفرد أوراقها فوق منضدة القهوة وتنغمس فيها مما جعله يتنهد قائلا :- صباح الخير يا أمي ... أخمن أنك لن تعودي إلى النوم ..
رفعت رأسها معدلة نظاراتها فوق أنفها وهي تقول :- صباح النور يا عزيز .. لا .. لدي بعض التحضيرات الضرورية لدروس اليوم .. هل أوقظك في السابعة كالعادة ؟؟؟
كعادتها .... تأبى والدته أن تسمح لنفسها بأن ترتاح ... تعلم والدته المرحلة الثانوية منذ خمسة وعشرين عاما .. لا يذكر عزيز أنها في إحدى السنوات اعترفت بأشهر الصيف كإجازة ... بل كانت تسعى دائما وتتبرع باستلام دورات صيفية تملأ بها وقتها ..
بطرف عينه رأى فرح تتلمس طريقها مغمضة العينين أيضا من الحمام إلى غرفتها .. حيث ستصلي وتعود إلى النوم مباشرة على الأرجح ... ثم أجاب والدته :- في السادسة والنصف ... سأفتتح الصيدلية باكرا هذا الصباح كي أتمكن من إغلاقها لساعتين خلال النهار لأجل مشوار ضروري ..
نظرت إليه متمعنة مما جعله يتراجع مغمغما بعصبية :- سأعود إلى النوم إذن..
:- عزيز .... اجلس قليلا ... أرغب بالتحدث إليك ..
أغمض عينيه بقوة ... مدركا بالضبط ما ترغب والدته بالتحدث إليه عنه ...
:- عزيز !!
تنهد وهو يستدير عائدا إليها ... ليجلس إلى جانبها قائلا بتذمر :- أنت تذكرين إشارتي إلى امتلاء يومي بالمشاريع وحاجتي إلى أخذ قدر كافي من النوم .. صحيح ؟؟
قالت بهدوء :- نعم ... أذكرها .. وهي بالضبط ما أرغب بالتحدث إليك عنه .. أنت ذاهب هذا النهار لزيارة أم ليان ... مجددا ...
مجرد ذكر الإسم جعل وجعا حادا يلسع صدره .. كسكين انغرز في المنتصف ليشق أضلعه شقا .. مرة واحدة عاد ليجد نفسه محاطا بظلمة كابوسه ذاك ... بسواده ... كسواد شعرها ... ونظرة عينيها حين فارقتها الحياة ..
:- عبد العزيز ..
انتفض عزيز عندما أمسكت والدته ذراعه ... فأدرك بأنه كان يرتجف مما جعل عينيها البنيتين الشبيهتين بعينيه تتسعان بقلق .. أخذ نفسا عميقا يتمالك به أعصابه ... ويهديء من صخب قلبه وعنف أنفاسه .. ثم قال بصوت أجش :- نعم يا أمي ... أنا ذاهب إلى شقة الخالة أم ليان ... لقد وعدت بيان بأن آخذها إلى الجامعة كي تنهي إجراءات تسجيلها ..
توتر فمها وهي تقول :- عزيز ... أنا أفهم مشاعرك ... والله أفهمها ... لقد مرت خمسة اشهر على وفاة ليان ... إلا الأمر انتهى بينكما قبل هذا بكثير ... وأنت تعرف هذا جيدا ..
هب واقفا .. محررا ذراعه من أصابع والدته وهو يقول بخشونة :- هذا غير صحيح ..
:- امتناعي عن التعليق احتراما لمشاعرك وأنا أراك تركض ورائها يوما بعد يوم بينما تبتعد هي عنك أكثر فأكثر لا يعني أنني لا أرى ... أنا أقدر صدمتك لوفاتها ... كلنا تألمنا وفجعنا لرحيلها .. لقد حملت تلك الفتاة طفلة رضيعة بين يدي بحق الله ... لقد كانت بمثابة ابنة لي ..
لقد حملها هو أيضا ... طفلا في السادسة عندما ولدت .... عرف منذ سمحت له والدته بحملها بأنها ستكون له .. وقد كانت له ... لثلاثة وعشرين سنة لاحقة ... ثم تغير كل شيء بين ليلة وضحاها .. والمرأة التي كان مقدرا لها أن تكون زوجته ... باتت تتهرب منه ... وتبتعد ... لعام كامل قبل أن ترحل تماما ... فلا هي باتت له .. ولا باتت لغيره .. بسببها ... بسببها هي وحدها ...
:- أن تتألم لموتها شيء ... وأن تضيع حياتك من بعدها شيء آخر ...
قال من بين أسنانه :- ما الذي تقترحينه ؟؟ أن أسعى للزواج ولم تمضي أشهر قليلة على موتها ؟؟؟ ألا تفكرين بمشاعر والدتها وهي تراني أستبدل ابنتها بأخرى خلال فترة قصيرة وكأنها حذاء لم يقدر لي شراؤه فاستبدلته بغيره ؟؟
قالت بحزم :- أم ليان تعتبرك كابن لها ... وهي لن تقبل أبدا أن تدفن نفسك حيا لأجل ذكرى ابنتها وهي تعرف جيدا بأن ابنتها لم تقدرك قط حق قدرك ...
قال بصوت أجش :- توقفي أمي
:- لا تهرب من الحقيقة يا عزيز ... ليان لم تبادلك مشاعرك أبدا بمثلها ... وليس من العدل أن تضيع مستقلك في ذكراها ..
كلمات والدته ... ذكرته بكلمات أخرى .. كلمات قاسية .. أصابته في الصميم وهي تلقي بالحقيقة في وجهه بدون أي اعتبار لأي شيء
( ليان لم تذكرك لنا ولو لمرة ... ألا يدل هذا على وهمك الكبير في حسابك لقيمة نفسك ؟؟؟ )
أخذ نفسا عميقا كي يكبح ذلك الغضب الأعمى الذي كان يجتاحه كلما تذكرها ... تلك المرأة الوقحة .. تلك التي تعارضت براءة وجهها مع القسوة الجارحة في عينيها .. وفي سلاطة لسانها ..
قال بصوت مكتوم :- أنا لا أنوي تضييع حياتي يا أمي ... أنا أحتاج فقط إلى بعض الوقت .. كما تحتاج عائلة ليان إلي في الوقت الراهن ... أم ليان مريضة وضعيفة .. وشقيقتيها في حالة هشاشة تهدد بضياعهن ... وأنا لن أسامح نفسي لو أن مكروها أصابهن بسبب إهمالي .. هن بحاجة إلي يا أمي ..
تشتت الصرامة في عيني والدته ... إذ حتى هي لا تستطيع إنكار هذه الحقيقة ... حتى وهي لا تعرف الحقيقة كاملة .. حقيقة أن السبب الرئيسي لالتصاقه بعائلة ليان في الأسابيع الأخيرة كان يتجاوز كثيرا دعمه لهن نفسيا وماديا ...
قالت برقة :- إلى متى إذن يا ولدي ؟؟
نظر إلى والدته دون أن يمنحها الإجابة التي ترددت داخل عقله .. صارمة .. غاضبة .. متوعدة
حتى تخرج هزار الشاعر من حياتهن ... مرة واحدة ... وإلى الأبد ..

رسائل من سراب الجزء السادس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن