الفصل الخامس
رسالة من سراب ..
مساء الأمس تشاجرنا انا وزيوس للمرة الأولى منذ ابتداء صداقتنا حول من تحبينه أكثر .. حتى أنه قد سرق مني هاتفي من وراء ظهري .. وقام بدفنه في الحديقة المقابلة لمسكني .. منعا لي من الاتصال بك .. فكدت أفقده إلى الأبد لو لم أرى الوغد صدفة وهو يقوم بجريمته ..
ثم انتهى الأمر بنا إلى الاتفاق على سؤالك حول الأمر خلال لقائنا الثلاثي القادم .. وأنا أحذرك منذ الآن .. لو أن إجابتك كانت لصالحه ... حرمتك من حصتك اليومية من الشوكولا ...
ملاحظة ... أنا أيضا بت مدمنا ... أشتهي البصل كثيرا في الفترة الأخيرة ..:- همام ... أهذا أنت ؟؟
وقف عند الباب المفتوح ... قلبه يخفق بعنف كما في كل مرة يراها فيها بعد نهار عمل طويل ... انتظر مكانه وهو يراقبها تقف عند باب المطبخ .. تستند إلى إطاره .. ترتدي منامة رياضية زرقاء اللون .. تلائم لونها مع زرقة عينيها .. في حين أظهر تفصيلها الضيق تفاصيل جسدها الرشيق والذي لا يكف عن إثارة جنونه بكل ما فيه ... شعرها الأسود كان قد استطال قليلا ليلامس كتفيها بترتيب وانضباط .. ككل شيء فيها .. دائما في مكانه .. دائما في سيطرة تامة .. وجهها الجميل كان ينظر إليه بتمعن ... لا يظهر عليه أي استنكار لاستخدامه مفتاحه هذه المرة لحسن الحظ .. في حين كانت تحمل بين أصابعها قدحا من القهوة تصاعد بخاره عاليا ... قهوة في الساعة العاشرة ليلا ... زوجته المنضبطة .. لم تكن منضبطة تماما إذن ..
تحرك إلى الداخل وهو يغلق الباب ورائه قائلا بهدوء :- آسف لتأخري ...
:- لا بأس .. لقد سبق وأخبرتني بأنك ستمر على منزل عائلتك ... كيف حال هزار ؟؟؟
هز كتفيه وهو يخلع سترته فيعلقها على المشجب المجاور للباب :- ربما عليك أنت أن تخبريني بحالها .. فعلى الأرجح أنت ترينها أكثر مما أفعل بحكم عملكما معا ..
لاحظ بطرف عينه قبل أن يستدير إليها نظراتها وهي تحوم بتوتر حول تفاصيل عضلاته التي أظهرها قميصه الأبيض المنشى .. التقاطه لتلك اللمحة النادرة عن انجذابها إليه .. جعل صدمة كهربائية تصعق جسده مرة واحدة .. لتذكره بأنه لم يحظى بها .. لم يلمسها .. لم يحببها .. لم يضع فيها .. منذ أشهر طويلة ... طويلة جدا ..
تلاحقت أنفاسه ... بينما بدأ قلبه يتخبط بجنون داخل صدره ... في حين كانت الرغبة المؤلمة ... الحاجة المؤلمة إليها تلسعه بسياطها .. مخلة بتوازنه فترغمه على أن يستند بيده إلى الجدار ..
:- هل أنت بخير ؟؟
ظهره ما يزال مواجها لها ... أخذ همام وقته كي يستعيد ثباته ... كي يذكر نفسه بأن الجانب الجسدي في علاقتهما هو آخر أولوياته ... بأنه قد تعهد بأن يكسب ثقتها ... ثم حبها ... قبل أن يسمح لنفسه بأن يقترب منها ...
إلا أن تذكره لعهده هذا في حالته هذه .. في إرهاقه الجسدي والعقلي هذا .. كان صعبا ... صعبا للغاية ..
تمتم دون أن ينظر إليها :- متعب ... ليس أكثر ..
:- هل أنت جائع ؟؟ أستطيع أن أعد لك شيئا تأكله ...
جائع ... إنما إليك ... القلق في صوتها أدفأ قلبه ... أنعشه .. وبث الأمل حارا بين شرايينه .. تمكن من أن يدير نحوها رأسه جزئيا .. قيتمكن من التقاط نظراتها المضطربة وهو يقول :- لا ... لقد أكلت شيئا برفقة هزار وأسرار .. سأدخل لأنام إن كنت لا تمانعين ...
نعم ... يجب أن يتحدث إليها في مرحلة ما .. إنما ليس الليلة .. قطعا ليس الليلة ... ليس في حالته هذه على الأقل :- تصبحين على خير ..
راقبته ليلى باضطراب وهو يدخل إلى غرفة والدها القديمة حيث كان يقضي لياليه منذ أشهر ... يغمرها مزيج من القلق لأنه يبدو حقا متعب .. بالتوتر لأنه كان يتحاشى النظر إليها ... بفعل غير مألوف من همام الذي لم يعتد قط إخفاء نفسه عنها أو عن أي شخص آخر .. بالراحة ....... لأنه قد عاد ... وقد أثار تأخره شيئا من الجزع لديها وهي تتساءل فجأة إن كان قد سئم من الحدود التي وضعتها له .. وإن كان قد قرر بألا يعود ..
خلال الأشهر السابقة .. أصبح وجود همام في شقة أبيها جزءا لا يتجزء من حياتها ... بالتأكيد هي لم تخطط للأمر على هذا النحو عندما سمحت له ذلك المساء بالدخول إلى بيتها .. ما حدث هو أنه قد استجاب لدعوتها .. وانضم إليها لاحتساء قدح من القهوة .. ظلا على إثره يتحدثان لساعات طويلة .. كانت ربما المرة الأولى التي يتحدثان فيها حقا .. وبقدر ما كان الأمر غريبا .. غير مألوف .. بقدر ما كان مسكرا .. أن تحظى بشخص تتحدث إليه .. تضحك لشيء قاله .. تستمع بنظراته الهائمة عارفة بأنه يشعر بالتملك نحوها .. لقد أحست للمرة الأولى في حياتها بأنها أنثى حقيقية ... وقد كان همام وحده هو القادر دائما على بث هذا الإحساس لديها ...
لقد كان إحساسها هذا مثملا .. إلا أنه كان مخيفا أيضا .. مما جعل ارتياحها لاتصال نوار لاحقا ذلك المساء لتخبره جزعة بانتكاس هزار واضحا إلى حد مخجل .. لم تتردد في مرافقته عندما قرر المغادرة على الفور .. بل هي ظلت إلى جانبه .. وإلى جانب العائلة حتى اطمئنوا على الصغيرة ... تلك التي كان رفضها لليلى واضحا على مر السنين .. إلا أنها لم تتردد في فعل ما يتوجب عليها فعله عند الحاجة في سبيل حمايتها وإنقاذها ..
عندما أوصلها إلى منزلها في اليوم التالي .. كان كلاهما قد قضى ما يزيد عن ست وثلاثين ساعة بدون نوم ... عرضها كان تلقائيا .. خرج منها بدون تفكير عندما أصرت على ألا يقود عائدا إلى منزل عائلته في حالته تلك ... بأن يصعد فينام قليلا على سرير والدها فيستعيد شيئا من قوته ..
منذ ذلك الحين ... تستيقظ ليلى كل صباح لتجده في مطبخها يعد الإفطار لهما .... وتعود مساءً فتستقبله حين يعود من عمله إليها .. كانا يتحدثان .. يتشاركان الوجبات وحتى المسؤوليات .. كان همام ينجح في دفعها للضحك بمداعباته ومزاحه الخبيث .. كما كان يدفعها أحيانا بنظراته العميقة للبوح بالكثير مما كان لا يعرفه عن نفسها ... إلا أنها في كل مرة كانت الأمور تقترب من تجاوز الحدود بينهما ... تضع له حدا قاطعا فكان يتراجع على الفور ... رافضا أن يفرض أي شيء من عواطفه عليها ...
مرة بعد مرة ... كانت تسحب يدها كلما لمسها عرضا ... تتهرب كلما حاصرها في مطبخها الصغير واللهفة تعتلي نظراته نحوها ... ترفض قطعيا التحدث عن علاقتهما .. حتى ...
حتى توقف عن المحاولة ....
نظرت إلى الباب الموارب لغرفة والدها .... وتنهدت وهي تواجه نفسها .. سائلة إياها إن كانت قد بالغت كثيرا في رفضه .. فهمام لم يعدها زوجة له حتى استشعر موافقتها ... كما لم يقم في شقتها بدون رضاها .. ربما هي لم تكن واضحة تماما في إعلانها عدم استعدادها للتخلي عن كل ما جمع بينهما خلال العام السابق .. إلا أن تصرفاتها كانت تتحدث عنها ...
تراجعها عن رغبتها في الطلاق .... يعني بمفهومه استعدادها لمحاولة إحياء زواجهما الذي لم يجد قط فرصة كي يحيا ... وربما يكون هذا صحيحا .. وربما لا ...
ربما كانت مجرد امرأة جبانة ... تخشى أن تتخلى عما لديها فتضطر للمغامرة والتورط في المجهول ...
ربما ترى في معرفتها لهمام ... لنقاط ضعفه ... لطريقة تفكيره ... لتمسكه بها .. أمانا تخشى أن تخسره .. ولكن ...... ما الذي يحظى به هو في المقابل ؟؟؟
حتى الآن ... لا شيء .... وربما سيظل يحصل على لا شيء لفترة طويلة .. إذ أنها ما كانت مستعدة أبدا لتسليمه حصونها ... ولمنحه ثقتها .. والمغامرة بقلبها معه ..
لماذا يؤذيها تباعده اليلة إذن ؟؟؟
وضعت قدح القهوة فوق منضدة قريبة ... واقتربت من الباب المفتوح ... أخذت نفسا عميقا .. ثم طرقت الباب دون أن تمنح نفسها الفرصة للتساؤل عما تريده منه قبل أن تسمعه يدعوها إلى الدخول ...
دفعت الباب وخطت ... لتجمد مكانها وهي تراه يقف عند منضدة الزينة .. يحل قفل ساعته البلاتينية ليضعها فوق السطح الذي اعتلته بعض أغراضه الشخصية .. لتدرك بأنها كانت تحبس أنفاسها وعيناها تتعلقان بذهول في جذعه العاري ..
كان يرتدي سروال منامته القطنية لا أكثر ... تاركا عضلاته التي كانت قبل دقائق فقط تتخيلها من فوق قميصه الرقيق .. تتماوج مع كل حركة كان يقوم بها .. تراجعت تلقائيا نحو الباب وهي تشعر بأنفاسها تتلاحق .. وبجسدها يستجيب تلقائيا لرؤيا عريه مذكرا إياها بليلتها الوحيدة معه ... في اللحظة التي استدار فيها قائلا :- هل من خطب ؟؟
احمر وجهها والحرج ممزوجا مع الغضب يعتريانها اتجاه ردة فعلها العنيفة هذه .. إنها تقيم معه تحت سقف واحد منذ أشهر بحق الله .. ربما هي لم تره نصف عار خلالها قط .. إلا أنها كانت على وعي بوجوده قربها .. وقطعا لم تسمح له أبدا بملاحظة تأثيره هذا عليها ..
قالت بصوت مكتوم :- لقد سألتك قبل قليل عن هزار ... وأنت لم تمنحني إجابة مما أثار قلقي .. كيف كانت اليوم ؟؟؟
لم يبد عليه أنه قد لاحظ اضطرابها ... أم تراه لاحظه وتجاهله تماما ؟؟ لم تعرف ليلى ما الذي أثار غضبها أكثر في الحقيقة .. أن يلاحظ شوقها إليه ... أم أن يتجاهله ..
قال بإرهاق :- بخير ... ظاهريا ... أنت تعرفين هزار ... ترفض تماما البوح بمشاكلها أو طلب المساعدة .. أتمنى لو أنني ..
ثم صمت وهو ينظر إليها بدون تعبير فقالت بعصبية :- تتمنى لو أنك هناك ... معها وإلى جانبها .. لو أنك لست مضطرا لتركها هي ووالدتك والحضور إلى هنا كل مساء ... إلا أنك لست مضطرا .. أنت تعرف بأن وجودك هنا كان خيارك أنت .. تستطيع العودة إلى منزل عائلتك في أي لحظة ..
هنا ... تصلب وجهه .. وتوتر فمه بينما برق الغضب في عينيه العسليتين ... إلا أنه لم يتحرك نحوها حتى وهو يقول ببرود :- أتطلبين مني المغادرة بشكل غير مباشر يا ليلى ؟؟؟
هزت كتفيها قائلة :- تستخدمني كمبرر .. أنا لم أطلب منك الإقامة هنا .. كما لا أطالبك بالرحيل .. أنت هنا بإرادتك الحرة ... وكل ما أفعله هو تذكيرك بهذه الحقيقة ...
أخذ نفسا عميقا وكأنه يسيطر على أعصابه .. قبل أن يتحرك مقتربا منها وهو يقول ببطء :- دعيني أغير تركيبة سؤالي يا ليلى ... هل تريدين مني البقاء معك هنا ... أم لا ؟؟
قالت بتوتر :- أنا .... لقد أخبرتك ... أنت ...
قاطعها قائلا بحزم :- أجيبيني عن سؤالي ... بنعم ... أم لا ... هل ترغبين بوجودي هنا يا ليلى ؟؟
تراجعت خطوة حتى خطت خارج الغرفة تماما عندما بدأت خطواته تقترب منها شيئا فشيئا ... هتفت بتوتر :- ومنذ متى تهتم بما أريده أنا ... أنت تفعل عادة ما تريده أنت وحدك ... دون أي اعتبار لرغباتي ..
:- وها أنا قد فعلت المستحيل ... وتغيرت لأكون الزوج الصالح الذي كنت ترغبين به دائما ... ذاك الذي يقدم رغبات زوجته الحبيبة على رغباته الخاصة ... أجيبي عن سؤالي يا ليلى ... هل تريدينني ؟؟ أم لا ؟؟
اتسعت عيناها وهي تستوعب مضمون السؤال الذي تغير فجأة من استفسار عن رأيها بوجوده في بيتها .... إلى سؤال واضح صريح ... هل تريد همام ؟؟ أم لا ؟؟
شحب وجهها وهي تجد نفسها محاصرة في مفترق طرق دون أن تعرف أي اتجاه عليها أن تسلكه .. فما كان منه إلا أن توقف فجأة عن التقدم إليها .. وجهه يقسو نازعا عنه أي لمحة مشاعر وهو يقول بجمود :- لا بأس ... لم أتوقع حقا أن تمنحيني إجابة عن سؤالي ..
تراجع خطوة وهو يمسك بالباب قائلا باقتضاب :- عندما تعثرين على الإجابة الصحيحة ... أعلميني بها ... تصبحين على خير ...
أغلق الباب في وجهها بهدوء شديد .... شديد للغاية إلى حد احست معه ليلى وكأنه يصفعها بقوة ...
لقد أغلق الباب في وجهها ..... لقد أغلقه في وجهها حقا !!!
ضائعة بين أحاسيسها .... مغمورة بالتوتر والاضطراب ... ممزوجين مع الغضب لفظاظته نحوها .. زحف الخوف ببطء فوق بشرتها عندما تساءلت مذعورة إن كانت ستجد قط الإجابة الصحيحة على سؤاله ..