الفصل السادس
رسالة من سراب ...
عاد أبي بالأمس .. وعجزت مجددا عن لقاءك .. تشاجرت معه .. كالعادة .. وانتهى الأمر بي وحيدة في غرفتي .. كالعادة أيضا ...
لا أظنني احتجت إلى أي شخص قبل الآن كما أحتاج إليك .. أتمنى لو أستطيع أن أحكي لك وأحكي ما يزدحم به قلبي ..
لو أنك تعرف فقط ... كم هو توقيت دخولك إلى حياتي صائبا ... وأنني لولا وجودك إلى جانبي .. لفقدت عقلي تماما ..باريس ..... قبل خمس سنوات ...
:- زيوس .... توقف ...
ربما ما كان عليه أخذ كلبه معه خلال تريضه الصباحي .. إلا أنه لم يستطع مقاومة نظراته الطفولية ولسانه اللاهث توسلا وهو ينتظره عند الباب .. لقد مرت أشهر منذ رآه آخر مرة .. عندما تمكن أخيرا من إقناع والديه بأن يصطحباه معهما إلى باريس بدلا من تركه وحيدا في الوطن تحت رعاية الخدم ...
زيوس كلبه الوفي منذ سنوات ... منذ عرضه عليه أحد عملائه في إحدى زيارات فراس له في ألمانيا ... الرجل كان مهووسا بتربية الكلاب ... وفراس الذي لم يفكر قط بأن يقتني أي حيوان أليف وقع على الفور في غرام العينين البنيتين للجرو الصغير الذي لم يتردد إطلاقا في رمي نفسه على فراس مستعطفا إياه ..
منذ ذلك الحين كان زيوس أقرب أصدقائه ... في السنوات الأولى .. كان يأخذه معه أينما ذهب .. حتى بات أكثر انشغالا من أن يتمكن من الاهتمام به خلال رحلات عمله .. فكان أن بدأ يتركه لفترات متقطعة تحت رعاية والديه ... في الواقع ... عندما يفكر بالأمر وهو يلاحق الكلب الضخم الذي اندفع عبر شوارع باريس بسرعة وتصميم وكأنه قد التقط أثرا لشيء كان يبحث عنه طوال حياته ووجده أخيرا .. يدرك بأنه لم يمتلك صديقا حقيقيا طوال حياته تقريبا قبل زيوس .. بالضبط منذ وفاة سنان تاركا إياه خائفا من أن يرتبط بأي شخص آخر فيخسره .. عندما دخل منزل والديه عند وصوله ليلة الأمس ليتقبله زيوس هاجما عليه .. وموقعا إياه أرضا من فرط حماسه .. أدرك فراس بأنه لم يفتقد فقط والديه ... لقد افتقد الإحساس بوجود شخص مميز في حياته .. شخص يكون معه لا لأجل رباط الدم كأفراد عائلته .. ولا لأجل المصلحة كما يفعل موظفوه .. لقد أدرك فجأة حاجته إلى شخص يريده لنفسه .. هو .. فراس .. فراس الإنسان .. فراس مجردا .. لا فراس الحولي الذي يلاحقه الآخرون خوفا أو إعجابا أو طمعا ..
:- زيوس ...
سارع الخطا وراء كلبه الذي اندفع عبر شارع جانبي وهو يبرطم حانقا .. ليصل إلى مسامعه صوت يهتف بمزيج من السخط والذعر :- ابتعد ... أمرتك بأن تبتعد ..
الصوت الأنثوي كان يتحدث بلغته الأم .. مما جعل الاهتمام ممزوجا بالتسلية يغمرانه وهو يلحق بزيوس عبر الشارع الجانبي .. ليرى الفتاة الملتصقة بالجدار الخارجي لأحد المباني بشدة وكأنها تتمنى أن تندمج فيه فتختفي .. وجهها شاحب تماما .. عيناها متسعتان برعب ... بينما كانت تهتف بزيوس الذي جلس أمامها مباشرة .. يرفع أنفه وهو يتشمم الهواء من حوله .. بينما ترمقها عيناه بفضول ولهفة :- إياك أن تفكر بأكلي .. أنا لست شهية .. أنا بصلة .. بصصصصللللة ... ألا تشم رائحتي الكريهة ؟؟
:- هاف هاف هاف ..
كبت فراس ضحكته وهو يرى الفتاة تنتفض وتلتصق أكثر في الجدار تأُثرا بنباح زيوس الحماسي .. ثم هتفت من بين أسنانها :- أقسم أنني سآكلك أولا ... أتسمعني ؟؟ اذهب وإلا ... وإلا ضربتك ...
برقت عيناها وكأنها قد تذكرت شيئا .. ثم مدت يدها ببطء شديد إلى جيبها .. بينما كان زيوس يصدر ذلك الصوت الأقرب للأنين والذي يعرفه فراس جيدا .. أيها الكلب الأحمق ... ألم تتناول إفطارك سابقا هذا الصباح ؟؟ الفتاة تحمل شيئا من الطعام في حقيبتها على الأرجح وقد اجتذبت رائحته كلبه الشره ..
كان بإمكانه أن يتدخل ... أن ينهي مأساة الفتاة بكلمة واحدة ... بتصفيرة صغيرة كانت لتعيد زيوس صاغرا عند قدميه تاركا الفتاة وشأنها .. إلا أنه كان فضوليا للغاية .. وفي رغبة كبيرة لمعرفة ما تنوي فعله .. الفتاة الشجاعة على ما يبدو إذ ان أي فتاة أخرى تبدي كل هذا الخوف والنفور اتجاه الكلاب كانت لتملأ الدنيا صراخا منذ دهور ..
تأمل الفتاة من مكانه متفحصا ... شعرها الكستنائي كان مرفوعا على شكل ذيل حصان خلف رأسها .. بشرتها كانت نضرة ومفعمة بالصحة .. بخدين متوردين وسط شحوب الخوف الذي كساه .. لقد كانت يافعة للغاية .. كما تبين من نظرة عينيها الداكنتين والفائضتين بالعجب الذي يرافق عادة أي روح لم ترى كل جوانب الحياة بعد .. إلا أنها كانت ناضجة كفاية بحين ترتقي عن وصفه إياها بالطفلة ...
نظر إلى قميصها القطني القصير الأكمام ... قماشه الرقيق مشدود حول أنوثة نبهته فجأة إلى تجاوزه حدود الحشمة في النظر مما جعله يتململ بعدم ارتياح .. لا ... قطعا لم تكن طفلة ..
:- إن لم تذهب ضربتك ... أتسمعني ... أنا لم أكن أمزح ..
كانت تمسك بشيء في يدها ... لم يستطع تبينه من مكانه ... إلا أنه اعتدل فضولا وحذرا وهو يتساءل إن كانت ستضرب زيوس بالفعل بالشيء الذي تحمله مما جعله يتأهب للتدخل في أي لحظة .. عندما لوحت بيدها بعيدا قائلة :- حسنا ... لا تقل بأني لم أحذرك ..
وبدون أي إنذار ... كانت قد قذفت ذلك الشيء الصغير من يدها .. إلا أنها لم تصوبه إطلاقا نحو زيوس .. بل إلى نقطة بعيدة تماما عنه .. إلى حيث كان يقف هو بالضبط ..