الفصل السادس والعشرون ...
باريس ..
قبل خمس سنوات ...مغادرة فراس المفاجئة أربكتها ... وجعلتها تراجع كلماتها بقلق .. متسائلة إن كانت قد أخطأت بطريقة ما .. إلا أنها لم تجد سببا يدفعه للرحيل عنها وتركها وحدها بعد ساعات من زواجهما ...
إلا إن كان قد ندم ... وغير رأيه بالارتباط بها ... أترى معرفته بأنها ابنة رجل مهم هي ما غيره ؟؟
فكرت مجفلة بأنه قد عرف اسمها الحقيقي أثناء زواجهما .. عرف بأنها أمان غالي .. هل ربط بينها وبين عصام غالي .. أهذا ما غيره .. إدراكه بأنه ما كان يتزوج بفتاة عادية ... بل بابنة رجل كعصام غالي ..
رجل على الأرجح ما كان ليرضى به زوجا لابنته الوحيدة ؟؟
أتراها أخافته بكلماتها عن أبيها وما يفعله عادة بكل من يقف في طريقه أو يشك بكونه تهديدا لأفراد عائلته ؟؟
رباه ... فراس ... أين أنت ؟؟
جلست فوق الأريكة المريحة ذات اللون الأورق .. ونظرت حولها بارتباك تتأمل الصالة المؤثثة بعناية .. لقد كانت الشقة نظيفة ... لامعة .. الاثاث يبدو وكأنه ... وكأنه لم يستعمل أبدا ..
وقفت وهي تتحرك لا إراديا نحو المطبخ .. مررت أصابعها فوق الرخام المصقول .. فتحت الخزائن لتنظر إلى أدوات المطبخ التي كانت ..... جديدة تماما ...
هل اشترى هذه الأشياء جديدة خصيصا لها ؟؟؟
فكرت بارتباك بأنها لم تسأل فراس أو تستفسر منه أبدا عن حالته المادية ... لقد سبق وأخبرها بأنه ينتقل بين الوظائف .. وأن والده يعمل في السفارة هنا .. وأنه في باريس في زيارة لوالديه ...
أدركت فجأة بأنها لا تعرف عنه الكثير ... لا تعرف رغم معرفتها به التي استمرت لأكثر من شهرين مكان إقامته .. لا تعرف أي تفاصيل دقيقة عن حياته ... حتى أنها لم تعرف حتى الآن اسمه الحقيقي ... هل كانت متوترة أثناء عقد القران بحيث تغفل عن سماع الاسم وهو يذكر أمامها ؟؟؟
تلقائيا .. اتجهت عيناها نحو المنضدة التي وضع فوقها فراس عند دخولهما ما معه من أوراق تضمنت جوازي سفرهما ...
للحظات ... ظلت واقفة وهي تنظر إلى جوازي السفر بارتباك ... عاجزة عن اتخاذ قرارها ... أيشكل اسم فراس فارقا حقا ؟؟؟ هي تزوجت فراس الإنسان .. فراس الذي عرفته خلال الأشهر السابقة .. فراس الذي أحبته ووثقت به .. وعرفت فيه ما تريد حقا أن تعرفه في الشخص الذي ترغب بالارتباط به ..
أيشكل اسمه فارقا ؟؟؟
لم يطل ترددها طويلا ... إذ سرعان ما حسمت أمرها .. ومدت يدها تمسك بجواز سفر فراس ...يتبع ..
هتفت أمان بوحشية نمر وجد نفسه عالقا في مصيدة :- أبدا ... أبدا ..
قال بقسوة وهو يكبل حركتها إلى جسده بدون أي صعوبة تذكر :- أنت لست مخيرة يا أمان ... بما أنك عرفت الحقيقة أخيرا .. بما أنك هنا .. لدي وتحت حمايتي .. بما أنك لم تقدري حريتك المزعومة حق قدرها .. فأنت ستفعلين ما أريده أنا بالضبط ..
نظرت عيناه إلى عينيها مباشرة وهو يقول بأحرف مضغوطة:- لقد تركك والدك تعيشين كما تريدين خلال السنوات الخمس الماضية ... وانظري إلى النتيجة .. أنت نلت فرصتك يا أمان .. وقد أثبت بأنك لم تستحقي قط تلك الحرية التي منحك إياها .. مما يمنحه الحق في سحبها منك تماما ... وتقديمها إلي .. وبالتالي .. أنا وحدي المخول منذ الآن فصاعدا باتخاذ كل قراراتك ... كلها يا أمان .. من أصغرها حتى أكبرها ..
أمام الجنون الذي كان يتراقص في عينيها ... ذلك المزيج من الصدمة والخوف ... عرف فراس بأنها لن تستسلم أبدا له حتى يرغمها .. ولكم يكره هذه الحقيقة .. يكره كونه مضطرا لكسرها في سبيل إصلاح الضرر الذي ألحقته بحياتها .. أمان يجب أن تعرف كل ما ضحت به في سبيل كل شعاراتها وأولوياتها الحمقاء والمتهورة .. لقد خسرت حياتها .. عائلتها .. أمانها كله .. بإصرارها على الاستهانة بنفسها .. وهو .. فراس ... المكلف بإعادة برمجة أولوياتها تلك ..
قال بصوت خافت .. إنما صارم .. جمد الدماء في عروقها .. وجعل الخوف يزحف فوق جلدها مقشعرا إياه :- أنت ستكونين زوجتي يا أمان .. زوجتي بما تعنيه هذه الكلمة من معنى ..
عندما توقفت عن قتاله .... عيناها الواسعتان تحدقان وكأنها غزال شارد جمد عندما وجد أسدا جائعا في طريقه .. فجأة .. ولأول مرة منذ خمس سنوات ... يرغب فراس امرأة إلى هذا الحد المؤلم ... هكذا وبلمح البصر .. وهو يشعر بجسدها الذي لم تنجح ملابسها الفضفاضة والغير مهندمة في حجب منحنيات أنوثته عنه .. وهو يستنشق عبيرها المألوف .. ذاك الذي لم يتغير حتى بعد مرور خمس سنوات .. يدرك فراس بأنه يريدها .. كما لم يرغب بأي شيء في سنواته الواحدة والثلاثين .. بصوبة بالغة .. وبكل ما يمتلكه من تحكم في النفس ... تمكن فراس من إخفاء النار التي كانت تحرق جسده عنها .. محتفظا بملامحه صارمة .. وجامدة .. حتى تأكد من إدراكها التام للمعنى الذي كان يقصده .. ثم حررها مرة واحدة .. لتنكمش مبتعدة عنه حتى التصقت بالجدار من جديد .. صدرها يعلو ويهبط بسرعة واضطراب .. جسدها يرتعش .. عيناها بركتان واسعتان وسط وجهها من الخوف والصدمة .. ثم قال بهدوء وثبات :- أنت ما عدت طفلة يا أمان ..
صمت تاركا إياها تستوعب كلماته .. ثم قال :- أنت ما عدت ساذجة وبريئة كالسابق .. أنت الآن امرأة ناضجة في الثالثة والعشرين .. أنت رأيت الكثير .. وعرفت الكثير خلال عملك مع عصام المهدي في جمعيته .. وتعرفين بالتأكيد ما تعنيه علاقة رجل وامرأة يربط بينهما عقد زواج ..
امتقع وجهها وهي تحدق به دون أن تجد ما تقوله .. وقد كان هذا في حد ذاته مضحكا له .. أن تعجز أمان غالي عن العثور على كلمات مناسبة لأي موقف كان .. تابع بهدوء وهو يرمقها بنظراته المتفحصة :- لن أخفي عنك أنك بمظهرك هذا .. لا تثيرين بي أكثر من مشاعر الشفقة والإحباط .. إلا أننا سنعمل على إصلاح هذا أيضا .. هذا مظهر غير مناسب إطلاقا لزوجة فراس الحولي ..
تحرك نحو الباب مدركا لأنها كانت تتابعه بنظراتها الهائجة .. وهو يقول :- سنتحدث لاحقا في التفاصيل .. بينما أتركك الآن كي تفكري في كلامي ... طبعا .. وفقا لمعرفتي بك .. أنت لن تتركي طريقة لمحاولة الهرب من هنا إلا وستفكرين بها .. وأنا أحذرك .. بأن أي محاولة منك للخروج من المزرعة دون معرفتي أو موافقتي .. لن تكون محمودة العواقب .. هذا إن نجحت في الأصل .. إذ أن رجالي لا يشبهون حارسك المتخاذل في ثقته العمياء بك .. كما أنني أشك بأن يجرؤ أحد الموظفين على مساعدتك في الهرب بعد الآن وقد عرفوا ما يعنيه هذا من خسارة لمصدر رزقهم ...
فتح الباب ... والتفت نحوها للمرة الأخيرة وهو يقول :- آه ... ذيل الحصان ... عليه أن يذهب أيضا ... أنا لا أحبه .. ولم أحببه قط ..
ثم غادر الغرفة بدون أي كلمة إضافية .. مغلقا الباب وراءه في هدوء شديد