الفصل السادس والثلاثون
تنهد فراس وهو يراقب والدته تغادر غرفة جدته ... يدفع فيردي كرسيها محاولا قدر الإمكان إخفاء بؤسه عنها .. فقد كانت في حالة الانهيار التي تعانيها بحاجة إلى قوة الجميع من حولها ..
نهض متجها نحوها فترك له فيردي مكانه بعد أن ربت على كتف شقيقته في لفتة مشاركة واضحة .. جرها فراس وهو يقول :- كيف وجدتها ؟؟
:- نائمة الآن ... تبدو في سلام تام ... هي لم تدرك حتى أنني كنت جالسة طوال الوقت فوق الكرسي المتحرك
لم يقل فراس شيئا ... إذ كان من قلة الإحساس أن يشير إلى أن النقطة الإيجابية الوحيدة في تدهور حالة جدته كانت في عدم ملاحظتها لحالة والدته ..
مدت يدها إلى الوراء كي تمسك بيده التي كانت تدفعها .. وقالت بحنان بينما دموعها تأبى أن تتوقف عن الانهمار من عينيها :- شكرا لك يا فراس ...
قال بصوت أجش :- ما الذي تشكرينني عليه يا أمي ؟؟؟
:- اعتناؤك بها .. حرصك على ألا تعرف بحالتي ... منحها السكينة في الفترة الأخيرة ... هي لم تقل الكثير أثناء وعيها .. إلا أنها تحدثت عن فتاة ما .. ما الذي قصدته جدتك يا فراس ؟؟ أهناك فتاة في حياتك يجب أن أعرف عنها ؟؟؟
في تلك اللحظة لحسن الحظ ... اقتربت الخادمة لتعلن عن حلول موعد العشاء ... فأخذ فراس نفسا عميقا وهو يقول :- لم لا أوصلك إلى غرفتك كي تنعشي نفسك قبل العشاء ... وبعدها سنتحدث ..
رمقه فيردي بنظرة قالت بوضوح بأنك تتهرب من المحتوم لا أكثر ... إلا أنه تجاهله وهو يوصل والدته إلى الغرفة التي جهزها لها في الطابق الأرضي حيث تلقفتها منه الخادمة التي خصصها لخدمتها ..
عندما عاد إلى الصالة ... كان والده هناك ... يرتدي نظاراته وهو يطالع أوراقا كان فراس قد سلمه إياها قبل دقائق .. رفع قاسم الحولي رأسه نحو فراس .. وجهه واجم تماما وهو يقول :- هل تعرف ملاك بما هو موجود في هذه التقارير يا فراس ؟؟
هز فراس رأسه وهو يجلس مقابلا لأبيه قائلا :- لا.... إن أخبرتها بأن نائل قد مات .. وأن رامي مجهول المكان .. فقدت عقلها .. أنا أؤجل الأمر حتى عثوري عليه ..
هز والده رأسه موافقا وهو يقول :- أنت محق ... لا تحتاج ملاك إلى مزيد من التوتر الآن ..
لم يكن فراس محتاجا لأن يسأل أبيه عن سبب تخلف ملاك عن الحضور ... هو يعرف بأنها ما كانت لتحتمل رؤية جدتهما تموت .. إذ كان يتذكر وبوضوح السنوات التي تلت وفاة سنان .. عندما كانت تستيقظ كل ليلة صارخة بعد كوابيس كانت تراه فيها بدون عينيه ... عينيه اللتين رأت الحياة تفارقهما شيئا فشيئا عندما كانت مجرد طفلة في السابعة ...
مجرد التفكير بأن رجلا خسيسا قد دمر ما تبقى من شقيقته الرقيقة ... الجميلة .. المثالية .. كانت تبث نارا سائلة بين عروقه .. لو أنها فقط لم تخف عنهم حقيقة ما كان يحدث بينها وبين زوجها ... لو أنها لم تنتظر حتى حصل المحظور .. كي تكشف حقارة زوجها له ..
لا .. هي لم تخبره حتى بالأمر .. بل اكتشفه بنفسه .. عندما كان عليه أن يذهب إلى شقتها .. تلك الحقيرة والمتواضعة والواقعة في حي شعبي وضيع .. تلك الشقة التي كانت تؤكد له بأنها تحبها .. وتألفها .. وأنها بيتها ولن تتخلى عنها أبدا ...
كان عليه أن يذهب إليها بعد إصابة والدته .. بعد اتصالات لا تنتهي بها كانت لا تلقى أي رد منها .. كان عليه أن يقرع الباب .. مرة بعد مرة .. قبل أن يجتاحه الذعر وغريزته تؤكد له حدوث شيء سيء لشقيقته ... ثم يحطمه بكتفه مستعينا بالجيران الذين التموا حوله بسبب الضجيج الذي افتعله ... ليعثر عليها فاقدة الوعي وراء باب غرفتها المقفل والذي اضطر لتحطيمه هو الآخر ... لقد كانت فاقدة الوعي ... مغطاة بالدماء ... بعد حبسها لأيام في الغرفة بدون أي وسيلة تطلب من خلالها المساعدة ..
الغضب الأعمى أيقظ الوحش الكامن داخله من سباته ... ذلك الوحش الذي ظهر يوم رأى أمان ممددة على الأرض بدون حراك ... بعد ضرب ذلك المجرم لها ... ذلك الوحش الذي كان يهدد بتدمير كل ما حوله .. فور أن يظهر للعيان ...
فقط لو أنه أمسك بنائل قبل أن يختفي ...
فقط لو أنه عثر عليه قبل أن يموت .... فقط لو أنه ...
:- فراس ...
لم يدرك بأن والده قد نهض من مكانه بينما كان هو غارقا في أفكاره القاتمة حتى أحس بيده فوق كتفه .. رفع رأسه ليرى الحنان في عيني والده الزرقاوين وهو يقول :- هون عليك ... إذ أنك بشر في النهاية .. مجرد بشر ..
أحس فراس بتلك القبضة المحيطة بقلبه ترتخي قليلا .. والده .. كان الشخص الوحيد الذي لم يعامله قط على أنه فراس كورتومولوش ... القادر على كل شيء .. المطالب بفعل كل شيء .. والمسؤول عن كل شيء ..
أرغم نفسه على أن يمنح والده ابتسامة صغيرة وهو يتمتم :- أعرف ..
ظهر الارتباح على والده وهو يقول :- هل قال أحدهم أن العشاء جاهز ؟؟؟ أنا أتضور جوعا ...