الفصل الثامن والأربعون
ساعد فيردي فراس على الاستلقاء فوق سريره في الجناح المخصص له في المستشفى بعد أن أسنده فور خروجه من الحمام .. ثم رتب الوسائد خلفه وهو يقول :- هل تحتاج إلى أي شيء آخر يا فراس ؟؟؟ أستطيع أن أطلب منهم إرسالة وجبة العشاء مبكرا .. إذ أنك لم تأكل شيئا يذكر خلال النهار ..
لم يجبه فراس ووجهه يتشنج بفعل الألم وهو يحاول الاستقرار في وضع مريح لإصابته .. منذ تعرضه للهجوم قبل أيام وهو يبدو لفيردي وكأن وضعه يزداد سوءا .. جرحه كان يلتئم جيدا حسب ما قاله الطبيب .. بل أنه أكد على قدرة فراس على مغادرة المستشفى صباح الغد والعودة إلى بيته .. إلا أنه كان يبدو وكأن جزءا منه قد انطفأ تماما منذ الحادثة ... وفيردي الذي كان يعرف السبب جيدا .. كان عاجزا عن قول أي شيء يواسي ابن شقيقته وصديقه المقرب .. فكيف له أن يشرح له أو أن يقدم أسبابا منطقية لرفض المرأة التي يحبها القدوم لرؤيته ...
جلس فيردي على المقعد القريب .. وانتظر أن يستقر فراس قبل أن يقول بهدوء :- أنت تعرف أمان يا فراس .. إحساسها بأنها المذنبة فيما حدث .. بأنها من عرضك للخطر .. يمنعها من القدوم لرؤيتك ..
أيضا لا جواب ... وأيضا هو لا يستطيع أن يقنع فراس أكثر بأن شيئا في الدنيا يمكن أن يمنع امرأة عن زيارة رجل تسببت في تعريضه للخطر وإصابته إصابة بليغة ... خاصة إن كانت تحبه !!
هذه هي المعضلة الكبرى ... فيردي يعرف بأن فراس لا يحب أمان فقط ... بل هو مجنون في حبها .. منذ اللحظة التي قابلها فيها فيردي فأدرك أنه قد راى صورتها قبل الآن ... ثم تذكر رؤية لوحة لها في شقة فراس .. تحتل موقعا واضحا من جدار الصالة ومنذ خمس سنوات مضت ..
في البداية ظن فيردي عندما رأى اللوحة لأول مرة بأنها مجرد لوحة لفتاة مليحة لفتت انتباه فراس فاقتناها .. لوحة تمنحه السكينة والتفاؤل بالضحكة المشرقة والغير عادية للفتاة التي لا تبدو أكبر من مراهقة ... إذ أن فيردي الخبير في مجاله كان يعرف أن اللوحة لا تمتلك قيمة فنية تذكر ...
ثم لاحظ اختفائها على إثر زواج فراس بنوار قبل ثلاث سنوات ... لتعود مجددا فتحتل صدر الصالة بعد طلاقه مباشرة ...
فراس يعشق أمان ومنذ سنوات طويلة ... يعرف فيردي هذا جيدا .. إلا أنه هو نفسه لا يستطيع أن يؤكد أي نوع من المشاعر الخاصة من أمان اتجاه فراس ... لقد لاحظ العديد من المشاعر المختلفة والمتضاربة والصادرة منها اتجاه ابن شقيقه .. الغضب .. الكراهية .. الحقد .. الانجذاب .. التوتر .. وحتى الرهبة .. إلا أنه لم يرى قط تلك الشعلة التي كانت تحرق نظرات فراس كلما رآها ... أو كلما ذكرها أحدهم أمامه ..
إما أن أمان لا تشارك فراس مشاعره نفسها على الإطلاق ... و أن الغضب الذي كنت تشعر به اتجاهه قام بعمله كحاجب لمشاعرها أكثر مما ينبغي .. في جميع الحالات ... مهما كانت مشاعرها اتجاهه .. فإن غيابها يؤكدها بالنسبة لفراس .. ورؤية فيردي للألم الصامت لابن شقيقته كان مؤلما بحد ذاته .
تنحنح مغيرا الموضوع :- لقد اتصل بي والدك هذا الصباح .... لقد كنت نائما فلم أستطع وصله بك .. لقد أراد أن يطمئن عليك .. وكي يخبرك عن سير الأمور معه هو وملاك ..
تكلم فراس أخيرا وهو يقول بصوت مكتوم :- هل أخبرك بأي شيء عن رامي ؟؟ هل عثرا عليه ؟؟
تنهد فيردي وهو يتساءل عن الوقت الذي سيتوقف فيه فراس عن تقديم الآخرين على نفسه في سلم أولوياته .. وقال :- لم يسمحوا لهما برؤيته بعد ... إلا أن المحامي يبذل جهده في إثبات أمومة ملاك لرامي .. ماهي إلا أيام وتتمكن من أخذه بين ذراعيها أخيرا ..
هز فراس رأسه دون أن يقول شيئا .. وكأن مزيد من الكلمات كانت تتطلب إرادة لم يكن يمتلكها .. قال فيردي بصوت خشن :- صمتك هذا يقتلني يا فراس .. قل شيئا .. أي شيء .. عبر عن غضبك .. عن سخطك .. اطلب مني أي شيء وسأفعله لأجلك .. لكن بحق الله .. أنا لم أعتد قط رؤيتك بهذا الشكل .. أنت تبدو وكأنك ..
صمت عاجزة عن العثور على وصف مناسب لحالة فراس .. فالتوى فم الأخير بتهكم مرير وهو يقول :- كمن تلقى قبل أيام طعنة كادت تودي بحياته ؟؟ غريب .. ما كنت لأخمن هذا ..
قال فيردي بإحباط :- لن تخدعني فتتظاهر بأن ما يعتريك هو حالة فلسفية لرجل مر بتجربة الوشوك على الموت ... الأمر مختلف عن هذا وأنت تعرف ..
أتى فجأة صوت ساخط قادم من الباب وهو يقول :- هو رجل كان ليتلقى صفعة على مؤخرته كما كان يفعل عندما كان في الخامسة كلما أخفى عني شيئا ... لو أنني كنت قادرة على الوقوف على قدمي ...