الفصل الخمسون

603 23 0
                                    



الفصل الخمسون


للحظات طويلة ظل عزيز يحدق فيها وكأنه غير مصدق بعد لتواجده معها في غرفة واحدة ... كانت فوق سريرها .. جالسة في انكماش حول نفسها ... تضم ساقيها إليها .. بينما تسند رأسها بين ركبتيها ..
لقد كانت تبدو كذلك المساء الذي دخل فيه إلى غرفتها بعد خطبتهما مباشرة .. عندما ألقت خاتمه في وجهه في دفاعية بعد ما عانت منه ...
الحاجة لأن يقترب منها .. لأن يلمسها .. لأن يضمها إلى صدره كانت قوية إلى حد احتاج معه لبذل كل طاقته كي يكبحها ... إذ لم يكن مستعدا على الإطلاق للمغامرة بإثارة خوفها أو نفورها .. وفي الآن ذاته .. هو لن يمنحها فرصة أن ترفضه .. إنها كما أخبرته نوار ... فرصته الأولى وربما الأخيرة لرؤيتها قبل فترة طويلة ..
اقترب ببطء من السرير .. ثم جلس على كرسي انتصب إلى جانبه ... ظل ينظر إلى شعرها الناعم الذي انسدل مغطيا أي جزء قد يكون ظاهرا من وجهها المخفي بركبتيها .. ثم قال بهدوء وبصوت منخفض :- هزار ...
لا رد ...
تنهد وهو يقول :- أعرف بأنك تسمعينني .. وتفهمينني .. أخبرتني أسرار بأن كل ما تفعلينه هو عدم السماح للكلمات بأن تتخطى السطح .. بأنك تحيلينها فور أن تصل إلى أذنك إلى أحرف لا معنى لها رافضة التفاعل معها ... وأنا .. حسنا .. أنا لا أبالي .. لقد جئت إلى هنا كي أتحدث إليك .. وأنت .. بما أنك ترفضين إبداء أي تفاعل .. فإنك لا تمتلكين أي خيار سوى الاستماع إلي ..
أيضا لا رد ... صمت للحظات ثم قال :- أتعلمين ... أحاول رؤيتك منذ أيام ... إلا أن شقيقك العنيد يمنعني حتى من دخول المنزل ... أتتذكرين يوما أخبرتك فيه بأنني لن أضربه لأجلك فقط ... لا أعرف إلى متى سأكون قادرا على الاحتفاظ بعهدي هذا .. إذ أن همام يختبر حقا صبرا لم أمتلكه قط ..
أطلق ضحكة غاضبة وهو يقول :- تخيلي .. يظن شقيقك المغرور بأنه قادر على إخراجي من حياتك بنفس السهولة التي استطاع فيها إدخالي إليها ... إلا أنه مخطيء .. فأنا أبدا لن أغادر يا هزار .. حتى لو رفضت التحدث إلي .. حتى لو ظللت أتحدث إليك أحاديثا أحادية الجانب إلى الأبد ...
أغمض عينيه بحزن وهو يتابع :- هناك الكثير من الأشياء التي أتمنى لو أستطيع التحدث فيها إليك ... أنت وحدك القادرة على فهم ما أريد قوله ... أشياء عن الماضي ... عما فعلته بك .. عن ليان .. رباه .. رغم كل ما فعلته بك .. لأشهر كنت تلومين نفسك على موتها .... هزار ...
أحس باليأس يتسلل إلى قلبه عندما لم تظهر أي ردة فعل ... حتى وقد حسب بأن ذكر ليان قد يوترها بطريقة ما .. مسح وجهه بكفيه وهو يقول زافرا :- لا بأس ... لا بأس .. لا تظني بأن صمتك سيوقفني عن التحدث إليك يا هزار ..
ثم أطلق ضحكة مريرة وهو يقول :- بقيت أنتظر هذه اللحظة لأيام .. وها أنا لا أجد معك ما أقوله ... ليتني أحضرت معي كتابا على الأقل كي أقرأه معك .. لقد فكرت حتى بأن أحضر أزهارا إلا أنك لن تصدقي الفتاة التي قابلتها في متجر الأزهار .. لقد قالت أشياءً .........
صمت فجأة وهو ينظر إلى هزار بجمود متذكرا كلمات الفتاة الغريبة قبل أن يغادر المتجر ...
( ربما حان الوقت كي تنطق بها أخيرا )
أهذا ممكن .... رباه ... هل يجرؤ ؟؟ .. هل يجرؤ ؟؟
نظر من فوق كتفه نحو الباب المغلق .. ثم نهض من مكانه ليجلس على حافة السرير إلى جانب هزار .. يكاد يكون ملتصقا بها .. رائحتها الطبيعية الزكية تغمر حواسه .. حرارة جسدها الرقيق .. كان قلبه ينبض بقوة بين أضلعه .. بينما كان التصميم يحل محل التردد .. والرغبة الجامحة في أن يستعيدها مجددا تطغى على كل تعقله .. عندما أحنى رأسه .. مقربا شفتيه من أذنها ليقول بصوت أجش :- أحبك ..
مرة واحدة وكأنها تمثال حجري ينتفض بالحياة فجأة ... أطلقت هزار شهقة عنيفة وهي ترفع رأسها منتفضة بعنف اضطره للإمساك بكتفيها وهو يردد بتصميم :- أحبك يا هزار ..
اتهزاز جسدها كان غير قابل للسيطرة وهي تهز رأسها بعنف هاتفة :- لا ... لااااا
بينما يداه تحاولان كبح رجفتها العنيفة كانت تقاومهما بشراسة عرف معها بأنه قد أخرجها من حفرتها المظلمة تلك .. أرغمها على الخروج ... إنما بأقسى طريقة ممكنة ... بإعادتها مباشرة إلى ذلك المكان الذي انطوت على نفسها وأطفأت روحها خوفا منه .. ولكم كان اضطراره لأن يفعل هذا يقتله .. أن يعذبها بهذه الطريقة في سبيل إرغامها على العودة إليه ..
كز على أسنانه وهو يضطر لدفعها فوق الوسادة ... مقيدا يديها حول رأسها وهو يقول بقهر :– أحبك يا هزار .. هل تسمعينني ؟؟ أحبك .... أحبك ...
عندها فقط ... انبثقت تلك الصرخة ... قوية .. مدوية .. وكأن وحشا كاسرا يمزق أحشائها مصارعا للخروج منها .. صرخة هزت الهواء من حوله .. هزت روحه .. وهو يحرر يديها ليمسك بوجهها وهو يقول بصوت أجش :- هزار ... انظري إلي .. إنه أنا .. عزيز ...
الألم فوق ملامحها الرقيقة .. الذعر في شحوب وجهها .. في ارتعاشتها العنيفة .. جعل ألما غير محتمل يمزق قلبه وهو يتصرف بغريزية فيحني رأسه ليلتقط فمها بين شفتيه .. لم يقبلها .. لم ينتهك ذهولها .... لقد كان بحاجة فقط لأن تتعرف إليه .. لأن تميزه .. تميز صوته .. ملمسه .. مذاقه .. تصميمه ..
انتفاضتها لم تتوقف .. إلا أنها تحولت .. لقد كان قادرا على الشعور بالتحول وجسدها الرقيق محتجز تحت جسده .. لم يعرف حتى متى حدث هذا .. لم يعرف سوى أن ذبذبات الخوف التي كانت تفيض منها قد تحولت إلى شيء آخر .. إلى سكون تام .. سكون دل على .... على تعرفها إليه .. رفع رأسه وهو يحدق مباشرة بعينيها المتسعتين تماما والمحدقتين به بذهول .. أنفاسها عنيفة .. قلبها ينبض بسرعة تحت صدره ... وجهها شاحب .. شفتاها مرتعشتان ... قال بصوت أجش :- من أنا يا هزار ... قولي اسمي ... قولي اسمي الآن ..
فتحت فمها هامسة باضطراب .. فخرج اسمه كتساءل ضعيف وتائه :- عـ .... عزيز ؟
أغمض عينيه بقوة وهو يسند جبينه فوق جبينها وهو يحمد الله مرة بعد مرة ... قبل أن يحرر جسدها من ثقل جسده .. ضاما إياها إليه بقوة ويده تربت فوق شعرها الناعم في تهدئة تلقائية :- نعم ... عزيز ..
أنفاسها المضطربة كانت تحرق عنقه بينما رأسها يستريح فوق تجويف كتفه .. أسند نفسه إلى ظهر السرير محتفظا بها بين ذراعيه في اللحظة ذاتها التي اقتحمت فيها نوار الغرفة وهي تهتف بتحفز :- ما الذي ...؟؟
ثم جمدت مكانها وهي تنظر إلى هزار المرتعشة بين ذراعيه ... بينما يبدو هو كمن خرج لتوه من معركة حياته .. يبدو مستنفذا تماما والمشاعر الجامحة تفيض من عينيه الداكنتين ... عندما أومأ لها برأسه مطمئنا إياها ... مجيبا إياها عن تساؤلها الصامت ... اغرورقت عيناها بالدموع وهي تلاحظ أصابع هزار المتشبثة بقميصه وكأنه الحياة ... لقد كانت أسرار محقة ...
قالت بصوت متهدج :- لقد كاد وقتك ينفذ ... سيعودون إلى البيت في أي لحظة فور أن يدركوا بأن أسرار لا تعاني من مخاض بالفعل ...
قال بصوت مكتوم :- اعطني لحظات قليلة فقط معها ... وبعدها سأغادر على الفور .. أعدك ..
أومأت برأسها وهي تغادر صامتة مغلقة الباب ورائها بهدوء .. فأطلق عزيز نفسا عميقا وهو يقول :- سأغادر الآن يا هزار ... إلا أنني سأعود ... قريبا جدا سأعود ...
مد يده ليمسك بأصابعها المتشبثة به .. ليشعر بمشاعره تخنقه وهو يلامس خاتمه الذهبي المحيط ببنصرها .. ثم قال :- إلا أنني سأكون دائما معك .. تذكري هذا يا هزار .. في كل مرة مرة يكاد ذلك البئر يبتلعك ... وفي كل مرة تخافين فيها من قسوة الذكرى .. أنا معك ... وسأظل معك ..
رفع يدها ليقبل باطن معصمها .. فيشعر بنبضات قلبها تزداد هدوءا ... أحبك ... أحبك يا هزار ..
لم ينطق بها هذه المرة ... إلا أنه كان يعرف بأنها كنت تسمع صداها داخل قلبها وبوضوح ...




رسائل من سراب الجزء السادس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن