الخاتمة
فتح عزيز باب الشقة مفسحا الطريق أمام هزار كي تسبقه إلى الداخل وهو يقول باسما بدفء :- أهلا وسهلا بك في بيتك يا هزار ..
ترددها اللحظي لم يفته إطلاقا قبل أن تتجرأ فتخطو إلى داخل الشقة .. وجهها الجميل ظاهر الشحوب .. أنفاسها متسارعة وكأنها جندي يخوض معركة حياته .. لحق بها مغلقا الباب بهدوء شديد .. وكأنه يخشى أن يخيفها إن أصدر مزيدا من الضجة فيدفعها للهرب ... أنار الصالة ... ثم خطا متجاوزا إياها لينير ما تبقى من مصابيح الشقة .. سامحا لها بأن تلقي نظرتها الأولى حول شقة الزوجية التي قامت والدتها بمساعدة والدته في اختيار الأثاث مع رفض هزار للتدخل وكأنها .... وكأنها في تدخلها بتأثيث بيتها الخاص تجعل من الأمر حقيقة ...
بهتت ابتسامته وهو يقول بهدوء :- تعالي لتشاهدي باقي الشقة يا هزار ... أتمنى أن تعجبك ..
راقبها وهي تزدرد لعابها بتوتر .. يداها مضمومتان أمامها تفرك إحداهما الأخرى وهي تسير دون أن تتعثر بفستانها الطويل بمعجزة ... تتحاشى بإصرار النظر إلى عينيه .. قبل أن تقول بتشنج :- هل ... هل أستطيع أن أؤجل هذا حتى الصباح ؟؟ أنا ... أنا متعبة ..
هنا ... اختفت ابتسامته تماما وهو يقول بجمود :- بالتأكيد .... سأدلك إذن إلى غرفة النوم ..
لا ... هو قطعا لم يخطيء هذه المرة الطريقة التي ازداد فيها وجهها شحوبا وقد ظن هذا مستحيلا ... سبقها إلى الغرفة التي قام بنفسه باختيارها .. بل وشارك هو نفسه في اختيار الستائر .. والشراشف .. حتى الأباجورات الخشبية التي تلونت قبتها بزيج من الأزرق الناعم والذهبي في مزيج جميل ..
لقد أولى هذه الغرفة عناية خاصة عارفا بأنها ستكون مملكتها .. سكنها وملجأها .. منه هو قبل أي شيء في العالم ... عندما لحقت به ووقفت عند الباب تراقبه بتوتر ... كان هو يفتح أحد أبواب الخزانة الخشبية الكبيرة .. ليتناول منها شيئا وهو يقول :- تعالي يا هزار .. أخمن أن والدتك قد رتبت ملابسك في القسم الآخر من الخزانة ... ستجدين الحمام عبر ذلك الباب هناك ... إن احتجت أي شيء نادني ... سأكون في غرفة الجلوس لما تبقى من الليل ..
متسعة العينين ... أدركت هزار بأن ما كان يحمله في يده ... كان منامة رجالية لم تتبين ملامحها ... إلا إدراكها هذا دفع لونا أحمر إلى وجنتيها .. مترافقا مع نوبة ذعر هددت باجتياحها وهي تفكر به يبدل ملابسه في أي مكان قريب منها .. الأسوا كان أن تبدل هي ملابسها وهو على بعد جدران قليلة منها .. قبل أن تستوعب أخيرا كلماته وهو يمر إلى جانبها محنيا رأسه نحوها وهو يقول بخفوت :- تصبحين على خير يا هزار ..
ثم يتركها وحدها في الغرفة مغلقا الباب وراءه بهدوء شديد ...يتبع ...
شاحبة ... مصدومة .. مضطربة .. ادركت هزار بأن عزيز كان يخبرها بأنه سيقضي الليلة كلها في غرفة الجلوس .. على أريكة غير مريحة على الأرجح .. ردة فعلها المبدئية كانت الراحة وقد تلاش شيء من مخاوفها التي أدركت بأنها لن تتمكن إطلاقا من تخطيها هذه الليلة .. وهي تلك المخاوف المتعلقة بالعلاقة الحميمة المنتظرة بينها وبين رجل هو زوجها .. إذ كان مجرد التفكير بالأمر يبعث رجفة ذعر في أوصالها وهي تعود لتفكر تلقائيا بليلة اختطاف كريم لها ... بالطريقة التي أحست فيها بأنها متسخة بعد أن أرغمها على أن تلمسه ... ثم تتقبل لمساته فوقها ...
ربما عزيز فهم مشاعرها هذه جيدا فمنحها هدية الاستقلال المؤقت على الأقل قبل أن تتجاوز مخاوفها هذه .. وربما ... ربما هو لم يتجاوز بعد رفضها الاجابة عن سؤاله الذي طرحه عليها خلال الحفل بينما هو يراقصها ... عندما استخدمت مقاطعة المصورة لهما كي تلتقط لهما الصور عذرا كي تتهرب من سؤاله المصيري ذاك ...
ما تبقى من الحفل كان مبهجا ... مفرحا وعائلتها كلها مجتمعة حولها إضافة إلى عائلة عزيز ... حتى وهي تتحاشى النظر إليه خلال التقاط الصور .. خلال تقطيعهما قالب الحلوى الضخم ... خلال إطعامه إياها من يده .. خلال مراقصته إياها من جديد تحت إصرار فرح وهي تتدبر أمر إذاعة أغنية هادئة .. رومانسية للغاية .. مع تركيز الإضاءة حولهما لتمنحهما هالة لا تتوفر سوى في القصص الخرافية غير الحقيقية ..
كذبة ... لقد كانت كلها كذبة ... جريمة ترتكبها في جبن أقسمت على ألا تعتنقه مجددا كانت هي فيها الجلاد هذه المرة ... بينما عزيز الضحية .. عندما استغلته مستخدمة إياه في مواجهتها الأخيرة مع مخاوفها وأشباحها ... لقد استخدمته ... صحيح ؟؟؟ كما واستخدمها كل من حولها طوال حياتها ..
لقد انتزعت عنه خياراته ... كما فعل كريم عندما اختطفها .. وهددها بقتل ليلى لو لم تستجب له .. مستغلة .... مستغلة حبه الغير مشروط لها ...
وهل تشك للحظة بأنه يحبها ؟؟؟ رباه ... هي حقا تستطيع أن تفكر بالأمر دون ان تصاب بنوبة هستيرية .. هي حقا تستطيع أن تستعيد كل ما مرت به مع عزيز منذ لقائهما ... كيف استحال كرهه لها إلى صداقة .. ثم خطوبة ... ثم .... ثم حب خالص كانت تصرفاته معها أكبر دليل عليها ..
وهل من دليل على حبه لها أكبر من تخطيه كل شكوكه اتجاه تورطها في موت ليان .. وإيمانه التام بها ؟؟
أتشك في حبه لها وقد تعاطى مع كل نوبات جنونها ... مع عقدها .. مخاوفها .. ثم ظل متمسكا بها حتى النهاية ؟؟
أتشك في حبه لها وقد كان هو من منحها السكينة في أصعب أوقات حياتها ... مثبتا لمرة لا تستطيع إحصائها .. بأنه أكثر شخص فهمها على الإطلاق ؟؟
هو يحبها ... حتى وهي ما تزال ترهب سماعها ... يحبها .. وهي استغلت حبه لها .. واستخدمته لصالحها .. وفي سبيل تخطيها مخاوفها للمرة الأخيرة ...
كيف يجعلها هذا مختلفة عن كريم بأي طريقة ؟؟؟
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تفتح باب الغرفة دون أن تفكر ... وتخرج في إثره ... بخطوات مضطربة .. بطيئة .. حذرة .. اقتربت من باب غرفة الجلوس المضاءة جزئيا .. وتحركت عبر الباب المفتوح لتنظر إليه مباشرة وهو يقف إلى جانب طاولة جانبية ... مديرا ظهره إليها وقد تخلص من سترة حلته السوداء .. و انهمك في حل ساعة معصمه بشرود ..
لم تعرف ما الذي فضح وجودها بينما هي تقف في سكون تتشرب بنظراتها الرجل الذي تزوجت به ...
وهل سبق ونظرت إلى عزيز حقا ؟؟؟
لقد كان طويلا ... عريض المنكبين .. رياضي البنية .. وقد سبق وأخبرها مرة بأنه ما يزال يمارس كرة القدم برفقة أصداقه مرة أسبوعيا .. لقد كان قويا .. لقد كان فارسها القوي والمغوار ... الذي تسلل لرؤيتها رغما عن كل تحفظات همام وأوامره .. لقد كان حاميها ... ولكم أشعرتها هذه الفكرة بالأمان ..
عندما التفت إليها مجفلا .. سألها على الفور بقلق :- هل أنت بخير ؟؟ هل من مشكلة ؟؟
تورد وجهها وهي تلحظ أزرار قميصه المحلولة ... فأخفضت وجهها وهي تهمس :- لقد أردت أن .... أن أتحدث إليك ..
ساد الصمت إلا من أنفاسه الثابتة ... قبل أن تسمعه يقول بهدوء :- لا بأس ... تعالي يا هزار .. لنجلس ونتحدث ..
ازدردت ريقها وهي تقول :- لا ... لا أريد أن أجلس ...
إذ أنني أخشى أن أفقد قوتي ... أن أفقد شجاعتي فأجبن من جديد ... تململت في وقفتها للحظات ... ثم قالت :- لقد ... لقد سألتني خلال الحفل عن السبب الذي دفعني لتعجيل الزفاف ..
:- لا يا هزار ... أنا أخبرتك بأنني لا أعرف أسبابك .. وأنني لن أسألك عنها ..
أغمضت عينيها للحظة وهي تقول :- أريد أن أخبرك بها ..
أحست به يقترب ببطء ... فعادت تزدرد ريقها وهي تتابع :- أنا ... أنا احتجت لاختبار نفسي ... لأتأكد ... بأنني قادرة على مواجهة مخاوفي دون أن ... دون أن أضيع مجددا ..
سمعته يقول بهدوء :- تقصدين بمخاوفك .. اجتماع الناس من حولك .. و كونك مركز الاهتمام ...
هزت رأسها باضطراب وهي تتمتم :- استماعي إلى همساتهم ... ونعتهم لي بالـ ... بالـ ... قا ... تلة ..
قال بصوت مفعم بالفخر :- وقد كنت شجاعة بمواجهتك إياهم جميعا .. لقد كنت قوية .. وفخورة .. وأنا كنت الأكثر فخرا بوقوفك اليوم إلى جانبي كزوجة لي يا هزار ..