كنت منهمكة في ترتيب شعري الأسود حين رن هاتفي.
تسارعت نبضات قلبي حتى قبل أن أجيب، فما إن يظهر اسمه على الشاشة حتى أشعر برعشة تهر أركان جسدي، وتنحبس الكلمات في شفتاي، كما تنحبس الدموع في محجرا عيناي، وأصاب بنوبة سكون وسكوت.
أتمالك نفسي، وأسترجع بعضا من كلماتي الهاربة، لأجيب :
- صباح الخير حبيبي.. كيف حالك؟
يرد هو بنبرة ساخرة رومنسية :
- ما دمت بعيدا عنك.. أنا في ظلام دامس سرمدي.. حبيبتي لا صباح يسفر ولا ليل يدبر.. وحدك شمسي وقمري.. المهم ، الحمد لله! وأنت.. كيف حالك ؟!
- الحمد لله
- أنا الآن في المطار، لقد عدت من دبي.. سأتم بعض الإجراءات، وسنلتقي غدا، أفتقدك يا حلمي الهارب.. سأقضي إجازتي ملازما لك..
- إن شاء الله حبيبي.. إن شاء الله.
لطالما كان اللقاء هو أجمل ما في الحب.. أن تكون على مقربة من حبيبك.. أن تتنفس عطره.. أن تلامس أنامل يده.. وتعترف في داخلك: ااااه! لو تعلم مقدار حبي لك..
أما في قصتي.. ما إن أفكر في لقاءنا حتى أقض مضجعي.. ثم أشعر بوخز شفرة حادة تقطع شرايين قلبي.
صوت بداخلي يهمس؛ " سيراك بهذه الحالة وستغيب شمسه عن مجرة قلبك.. لا يمكن أن يحبك بعد هذا."
شاءت أقدار الحب أن يقع اختياره على مكان لقاءنا الأول.. حديقة" كاتدرائية القديس بيار".
هذا ما اطلعني عليه في اتصاله تلك الليلة.
تلك الليلة كذلك بكيت بحرقة.. بكاء فقدان حبيب إلى الأبد.. بكاء يعقوب على يوسف.. ثم توسدت أحزاني.. ونمت في أحضان الرحيل.
كان يوما ربيعيا.. كما في لقاءنا الأول.
ساعدتني هدى على ترتيب أناقتي.. كما ساعدتني على ركوب كرسي المتحرك الذي لم أعتد ركوبه بعد.
أي شجاعة هذه.. أن تمضي على شهادة وفاتك بيدك..
أن أمشي حافية القدمين إلى مصيري.. ونهايتي..
آسفة ! هي يحق لشخص مبتور القدمين أن يتكلم عنها؟؟
توقفت سيارة الأجرة.نزلت هدى أولا.. لتساعدني على ركوب كرسي المتحرك مجددا.
رأيته من بعيد.. يقف بكامل هيبته وكبرياءه وأناقته.. حاملا ما يشبه وردة حمراء غامق لونها.
لطالما كان يردد أن الإعجاب يسقي الورود لتنبت حبا لا ينتهي.
سيندثر الإعجاب.. وينتهي الحب.. وتذبل الورود.
طلبت من هدى أن نأتيه خلف ظهره.
توقفنا على بعد خطوة منه.. قاطعتُ شروده ب " صباح الخير".
استدار ليرد التحية بابتسامة عريضة.. اكتفى برد التحية جافة.. فالابتسامة انطفأت.
استدار بروية ليرى حبيبته أو ما تبقى منها تلازم كرسيها المتحرك.
حاولت وقف جريان الدموع لأشاهد الذهول الذي أصابه..بعد ان سقطت الوردة من يده. وذبلت فجأة.
لوهلة.. شعرت أنه فقد كلماته وحواسه.
شعرت أن ذلك المشهد أحدث في نفسه زلزالا لا يقاس بدرجات ريشتر.. وحدها درجات الحب كفيلة بقياسه.
ثم شعرت أن دمه توقف عن الجريان.
كان مشهدا من تراجيديا الحب.- ما… ما هذااا!! ما الذي جرى؟!!..
كيف حدث ذلك " أحلام"؟؟ لماذا لم؟؟.. لماذا لم تخبريني؟؟..أسئلته تلك أخذت منه جهدا جهيدا.. كما تطلبت منه عدة تنهيدات من أعماقه.
لأول مرة منذ زمن بعيد يذكر اسمي وحيدا جافا. دون أن يقول " حبيبتي".
لملمت مرايا نفسي المهشمة.. وأجبته:
- حدث ذلك أثناء فترة عملك في دبي..أيامك الأولى هناك.. تعرضت لحادث مروري خطير كاد أن يودي بحياتي.. قضيت أسبوعين في غيبوبة تامة.. وعندما أفقت.. عندما أفقت.. ااااه.. وجدت ساقي قد بُتِرَتا.
بضع حروف.. بضع كلمات.. كم هائل من الدموع.
لم ينبس ببنت شفة.. فقد غادر.. ببساطة.ثلاثة أيام بعدها..
لا اتصال منه.. ولا كلمة.
وحيدة أنا.. أعد الدقائق والساعات عله يتصل.
أربعة أيام بعدها..
شخص يدخل عالمي المتقهقر ويهمس ناصحا: " ضعي حدا لحياتك صغيرتي.. فحتى الموت يعد حلا للضعفاء أمثالك."
خمسة أيام بعدها.. لي رغبة جامحة في الانتحار.
ستة أيام بعدها.. فكرت أن تناول جرعة مفرطة من دواء ما.. هي الطريقة الأمثل لمغادرة هذا العالم دون رجعة.. عالم لا يهتم إلا بالمظاهر والاشكال.
"عندما ينتهي الحب أعلم أنه لم يكن حبا.. الحب يجب أن يعاش لا أن يُتذكر"
مقولة شخص لم أعد أذكر اسمه.
أمسكت قنينة " الفيفادول".. قرأت في التعليمة : لا يترك في متناول الأطفال.. ربما كان لزاما أن يضاف لتلك الجملة؛ " لا يترك في متناول الأطفال.. والضعفاء.. وأسرى الحب".
وضعت مجموعة من تلك الأقراص في كف يدي دفعة واحدة.. قبل أن يشجعني ذلك الصوت مجددا : "ضعي حدا لكل هذا صغيرتي.. اجعليه يشعر بالذنب ان كان سبب هلاكك.. أنبيه بطريقتك."
على بعد خطوات - أنا-.. وثوان.. وبضع جرعات من الموت.
في تلك اللحظة.. رن هاتفي رنينا قصيرا…
يتبع…