ربما تكون نسمه الهواء هذه تحمل بين طياتها بعض الأمل الذي طال انتظاره، ربما حين يأتي الشتاء وتتساقط الأمطار تُغسل أرواحنا المنهكة من مرارة الهزائم المتكررة، سنظل نتمنى ونحلم بذلك اليوم الذي ستُحَقق فيه تلك الأمنية التي خبأناها بين ثنايا أرواحنا.. حينها ستنفرد تلك الأجنحة التي تختبأ داخلنا ونرفرف بعيدًا بين تلك السحب.
اليوم أكمَلَت فيه عامها السابع عشر، ظهرت عليها ملامح الأنوثة فهي جميلة، رقيقة، طيبة القلب وتشع منها البهجة أينما ذهبت، تقطن مع والدتها وأخواتها في منزل كبير يظلل سطحه شجرة توت كبيرة وارفة الظلال تطرح توت لونه أحمر يشبه وجنتيها الجميلة.
تحملت الأم مسؤولية تربيتهم بعد أن ازدادت الأوضاع الاقتصادية سوء في البلاد وأصبح كاهل الأب مثقل بمصاريف ثلاثة أبناء، لذلك فكر وزوجته في حل وبعد طول تفكير لم يجد بد من السفر إلي تلك البلاد التي يستطيع من خلال تواجده فيه توفير حياة كريمة لأبنائه، عندما أخبر الزوج زوجته بأنه عزم أمره وسوف يسافر خلال أيام تهلل وجهها واستبشرت خيرًا ومرت الأيام وسافر الزوج وأصبحت (أمل) هي الأم والأب معًا.
أرسلت الشمس أشعتها على استحياء واستيقظت (أمل) وعيناها معلقة على ساعة الحائط التي حرصت أن تكون أمام سريرها، رأت بندول الساعة يقف عند السابعة فهرعت سريعًا إلى أطفالها توقظهم من نومهم وهي تهمهم وتقول لنفسها "لقد تأخر الوقت كثيرًا" لقد أضحت في سباق مع الوقت حتى تستطيع أن توصلهم إلى مدارسهم وبعد تلك الجولة المكوكية استطاعت إيصالهم في الوقت المحدد وأخيرًا استطاعت أن تتنفس الصعداء فحَضَّرت كوبًا من الشاي وراحت ترتشفه وهي تطالع الأخبار سمعت صوت (زينة) وهي تنادي وتقول:
- ماما أنا هنزل عشان أتأخرت علي الجامعة، مع السلامة.
اكتفت امل بابتسامة صغيرة وأكملت ما كانت تفعله شردت بذهنها قليلًا وتذكرت تلك الأيام التي كانت فيها في سن ابنتها، كانت يافعة قوامها مشدود شعرها أسود ينسدل علي كتفيها الابتسامة لا تفارق ثغرها، أفاقت من شرودها على صوت الهاتف أسرعت نحوه كان هو زوجها أتاه صوته محمل بالحنين إليها وإلى أطفاله وإلى ذلك المنزل الدافئ، أخبرها بأنه سيرسل لها النقود بعد أيام وأوصاها أن تحافظ على أطفاله حتى يعود ثم ودعها وأخبرها أنه سيهاتفها لاحقًا كلما تسنى له الوقت، بدأت جولتها الأخرى في تحضير الطعام وجلب الأطفال من المدارس ثم استذكار الدروس معهم وبعد انقضاء اليوم أتى اتصاله كعكار مسكن لذلك التعب الذي أصابها من يوم طويل منهك، استمر رتم يومها هكذا إلى أن انتهت إجازتها وعادت إلى عملها، التعب الذي أصابها من يوم مرهق لملمت بأناملها خصلات شعرها المتطاير في جديلة واحدة وراحت في سبات عميق وفي الصباح استيقظت باكرًا وبدأت جولتها المكوكية لكي ترسل أطفالها إلى المدرسة، وبعد الانتهاء من تلك الجولة وقفت تودعهم راحت أناملهم الصغيرة تلامس خدها وهم يطبعون قبلة عليه ثم تأتي من أفواههم كلمة "مع السلامة يا ماما" لتجعل قلبها يخفق بشده خشيه عليهم من هذا العالم البائس الذي يتجهون نحوه.
جلست في شرفتها تحتسي كوب الشاي _كالمعتاد_ وهي تسمع أغنية لأم كلثوم ويمضي الوقت وعينها معلقة على الهاتف تنظر إليه تارة ثم تهيم في سماع الأغنية تارة أخرى ولم يأتيها اتصال، اندفعت نحو حجرة (زينة) تخبرها بقلقها على ابيها فلم يتصل على غير عادته، فردت عليها (زينة) في فتور:
- حبيبتي أكيد مشغول وشويه وهيتصل يا ماما.
تحاول أن تطمئن نفسها أنه بخير فتركت ابنتها في ثباتها وبدأت في تحضير الغذاء لأطفالها الصغار، مر الوقت ثم أتى اتصاله فاترًا يتحدث وكأنه يخرج الكلمات بصعوبة سألته لمَ لمْ يهاتفها في الصباح كما اعتادوا على ذلك ولكنه يتعلل بأنه مشغول وأنهى المكالمة بغتة، تهيم بها الظنون ولكنها تحاول أن تقاوم تلك الهواجس التي تحاول الانقضاض على عقلها وتطردها شر طرده وترفع أكفها وتدعوا له أن يحفظه ويرزقه، تنظر إلى أطفاله وهم ينهون فروضهم فتبتسم وتجلس بجوارهم وهي تمسك بكتاب تقرأ فيه تارة وتساعدهم تارة أخرى وبعد انتهاءهم من تلك الفروض يجري عليها (أحمد) ويطوقها بكلتا ذراعيه ويضحك فتحتضنه أكثر ثم تأتي (مريم) و (سما) وهما يحملان كعكة صنعاها لها خصيصًا بمساعدة اختهما الكبرى (زينة)، تبتسم (أمل) وتكاد أن تطير من فرط الفرح، يلتقطون الصور وتعلو الضحكات وتنتهي الأمسية في سعادة فتأخذ (أمل) هاتفها وتحاول الاتصال بزوجها ولكنه لا يجيب ينتابها القلق ولكنها سرعان ما تغط في نوم عميق وفي الصباح يوم جديد تتوجه فيه إلى عملها، لقد انتهت تلك الأجهزة التي كانت بها ترتدي فستانها الأزرق وتضع القليل من مساحيق التجميل وتذهب إلى عملها وكأنها لا تتألم ولا تعاني من شيء ويرن هاتفها ويكون هو يقول لها في جملة مقتضبة "سوف أعود؛ لقد أخذت إجازة من العمل وسآتي لرؤيتكم بعد غد" يتهلل وجهها فرحًا لقد نسيت له عدم اتصاله وفتور كلماته وتذكرت فقط عودته، انتهى عملها وتوجهت إلى السوق وجلبت معها كل ما يحبه من طعام؛ أرادت أن تصنع له كل ما لذ وطاب، أخبرت أطفالها بأن أبيهم قادم وعليهم أن يحضِّروا لاحتفال كبير احتفاء بعودته، راحت تنظف المنزل ومعها (زينة) وجعلت (أحمد) و (مريم) يهتمون بالحديقة يقلمون الأفرع الجافة التي في شجرة الورد والريحان، يزيلون تلك الأوراق الجافة الساقطة على نبات النعناع الذي يعشقه، أسرعت هي إلى الشرفة وأعادت ترتيب زهور الفل التي أشترتها خصيصًا له ووضعت كتبه بعناية على رفوف مكتبة صغيرة صنعتها من أجله، جعلت البيت الصغير يبدو كقصر كبير يملأه الحب والجمال وتفوح من جنباته السعادة وقبل مجيئه تأنقت وارتدت اجمل ثيابها فبالرغم من تلك الأعباء التي أثقلت كاهلها إلا أنها لازالت جميلة، أدارت نظرها في المنزل سريعًا فوجدت كل شيء جميل، تفقدت الطعام لقد أصبح كل شيء معد جيدًا من أجله فهذه إجازته الأولى ولابد أن يطمئن قلبه أن كل شيء جيد وأنها قادرة على تحمل المسؤولية بدونه، فجأة سمعت صوت مزلاج الباب وهو يدور دق قلبها بعنف وقفت تلتقط أنفاسها اللهثة وعينها معلقة بالباب حتى دلف إلى الداخل أسرع الأطفال