الطرف الأول

3K 46 4
                                    


لأن البيوت المصرية تتشابه حد الملل ، هي ليست في حاجة لصوت المنبه و لا لصياح الديك ، يكفي صوت صراخ والدتها بأن الساعة تخطت العاشرة صباحًا فتصاب بعدها بالهلع و تستيقظ بأسوأ طريقة .
تأوهت بالألم إثر سقوطها عن السرير ، فقد ضاع الحلم الجميل في أكثر لحظاته جموحًا بسبب صراخ والدتها ، لتزفر بضيق و هي بالكاد تتذكر التفاصيل .. هي تمتلك ذاكرة دوري بجدارة !
ألقت نظرة سريعة على الغرفة حولها بينما تتثاءب برغبة شديدة في الانغماس في النوم ، نهضت من مكانها ترتب الغرفة ، و تضع كل شيء بمكانه ..
غادرت باب غرفتها، صارخة :
- الشاي بلبن يا ماما ..
عيناها كانتا تقاومان النعاس و هي تبحث عن ساعة الحائط ..يسقط فكها كالعادة الساعة لم تتخطَ الثامنة ..
تنتابها نوبة غضب عارمة فوالدتها خدعتها للمرة .. حسنًا اللحظة تحمل شعار "مابعدش يا چيمي " !
استندت للأريكة تحاول الحفاظ على توازنها ، فهي في طريقها لسقوط محتمل على الأريكة و الدخول في غيبوبة كما تطلق عليها والدتها الاسم .
اقتربت منها والدتها تصيح بنفاذ صبر :
-طبعا مش قادرة تقفي على رجلك من سهر طول الليل على التليفون الزفت !
تحرك كتفيها في عدم اكتراث يليق بها :
- أيوة يا ماما ، هو يا النوم يا التليفون .
والدتها تفتعل دراما رخيصة من التسعينات ، الدموع تترقرق في عينيها :
- بتتريقي على والدتك يا مرام ؟ دي آخرة تربيتي فيكِ، تتريقي على كلامي !
"مرام " سقطت في حالة صادمة و شلل مفاجئ في لسانها ، ووالدتها بدون مقدمات كتبت تحت اسمها بالـ "بنط " العريض "ابنة ضالة " ..
تقترب من والدتها تنحني تقبل يديها بحنان :
-ماحدش يقدر يتريق عليكِ يا ست الكل !
تهللت أسارير والدتها فألقت في وجهها مفاجأة غير متوقعة :
-عزت قابل أبوكِ و اتكلم معاه بخصوصِك، وأبوكِ وافق يجي النهاردة هو و عيلته .
-نعم!
حيث الموقف لا يحمل أي تعبير آخر غير "نعم" ، هي أقرب ما يمكنها نطقه بعد الموقف الذي وضعها فيه والدها ، كيف يفعل بها ذلك ؟
"عزت "من جديد يظهر على الساحة و يعكر صفو حياتها ، بعد رفضه المرتين السابقين لم تتوقع أن يجدد طلبه بالزواج منها ..
"عزت " لا يمل أبدًا ، و هي قررت الانتقام منه !!
بدون كلمة زائدة اتجهت للحمام و ثم لغرفة.. تخرج بنشاط مرتدية ملابس العمل ، و ما كادت تتجه لباب حتى أوقفها صوت والدتها من الخلف .
اندفعت تحتضنها ، تطبع قبلتين سريعتين على وجنتيها تهتف :
-مش هاتأخر ، هاروح الشغل و هاجي قبل الساعة سبعة .
لم تترك لوالدتها فرصة فهم شيء مما يحدث وهي تندفع خارج البيت سريعًا مغادرة قبل أي حديث آخر
....

ترفع معصمها فتجد الساعة تخطت العاشرة مساءً، تبتسم بظفر كأنها حصلت على ورقة اليناصيب.
تتدفق أنغام لحن قديم من محل قريب ...تبدأ بدندنة خافته باللامبالاة كل تفكيرها يأخذها في كيفية إرضاء والدتها و والدها بطريقة مناسبة لا تضعها موضع شك.
تتصور الدراما التليفزيونية التي ستحدث بينما هي بدمعتين و عبوس وجهها وتخبرهم بحزن :
"المدير قالي مفيش خروج بدري "
"كان ها يتخصم مني أسبوع يا ماما، أسبوع تخيلي "
"إلا مستقبلي يا بابا، إلا مستقبلي "
أما عريس الغفلة الأفضل له أن يحترق في الجحيم السفليّ أو يختفي...
تتقاطع أفكارها بنظرة قلقة للخلف، شعور بعدم الأمان يغلف روحها خصوصًا بوجود تلك السيارة السوداء وراءها.
وقفت مكانها بشجاعة حيث حقيبة يدها تحتوي على أسلحة للمتحرشين أمثاله واللعنة على المجتمع الذكوري المتعفن..
تعود أدراجها لسيارة ضاربة على زجاج ، ولسانها يلعنه بسخط :
-أنت يا حيوان، أفتح الباب حالًا
صراخ صوتها يرتفع كأنها أمسكت مجرم هارب من العدالة :
-مفكر نفسك مين؟ ها مين أنت عشان تمشي ورايا؟ والله هاخليك عر..
تشهق بصدمة بينما تتراجع بنزول صاحب السيارة، تلك الملامح ليست غريبة عليها بالمرة ، تتجاوز كل هذا دفعة واحدة، مرددة بغيظ :
-أنتَ !!!
يبتسم لها بهدوء :
-مرام !
حروفه تحمل لهفته، وشوقه، تأثيرها الملفت للعين لكنها تتغاضى عنه و عن مشاعره :
-هو الحلو ضيع الطريق ولا باين عليه مابيفهمش؟
يحرك كتفه بعدم اكتراث ،يهتف :
- لا بصراحة والدك قالي أجيبك بدل التأخير ده
تهديه ابتسامة مريبة، عيناها تناوشه ببراءة غريبة مع تعابير وجهها الجامد :
-يعني بابا قال اقتراح، أنت حبيت تعرض خدماتك اللطيفة عليَّ، أمممم
تنظر حولها كتمشيط ضابط شرطة مكان مكافحة المخدرات، النساء حين التفكير يدعون للاختباء بعيدًا عن محيطهم.
تراقب سيارته بنظرة مرعبة جعلته يرغب باحتوائها، و أخبرها أنها مجرد مختلة عقلية لن تفعل شيء مخيف .
حيث لو فعلت شيء "حسام " سيقطعه و يلملم جسده الرياضي الجميل في أكياس سوداء ويرميه للكلاب الضالة !
بدون مقدمات أو جرس إنذار كانت تهبط على باب السيارة بضربات متتالية بقدمها بلا حساب ،و كعب حذائها يساعدها على إحداث ضرر كبير.
تراجعت للخلف بحرج مفتعل تعيد خصلاتها خلف أذنها بوداعة :
-سوري مش بركب عربية بابها بايظ
ما إن ألقت بجملتها بوجهه حتى بدأت بالسير بعيدًا عنه.. وقف مكانه مصدومًا للحظات قبل تدفق ضحكاته بصخب على فعلتها الرعناء ، و عيناه لا تصدق ما فعلته لتذم شفتيها بضيق حيث رده غير متوقعة بالمرة.
"الرجال عند لمس سيارتهم " يصيبهم جنون مطلق كأنه تم المساس بكرامتهم ،و هي رغبت بحرق قلبه الأحمق لكن معه تجد استثناء .
دقيقة.. اثنتين.. ثلاث عاد بظهر مستندًا على السيارة يراقبها مغادرة.. يختل قلبه، روحه، كيانه كله.
"مرام " امرأة طاغية، مبهرة، ملفتة أشبه بخيط سعادة يرغب بحياكته بحنكة خياط على فجوات الألم و الحزن داخله فيختفي معها كل شيء و تبقى هي فقط !
يجد نفسه يردد ساخرًا:
"العمر لحظة بس الحلوفة مش ملاحظة، أنت المعين يارب "
قاطعة رنين الهاتف باسم "حسام" :
-هو يوم مش فايت، أنا عارف !
يفتح المكالمة متوجس ..يصله صوت صديقه :
-أنتَ فين؟ أنا محتاج العربية عندي مشوار مهم.
يلقي نظرة آسفة ناحية السيارة متخيلًا "حسام " ينتظره بحبل المشنقة على باب شقته :
-بصراحة.. بصراحة..
-أنت لسة هاتفكر بقولك عايزها عندي مشوار!
حان وقت قلب الطاولة على "حسام ".. فهتف بنبرة سمجة:
-حسام أنت أخدت مني 100 جنية ولسا مارجعتهاش .
ليسأله "حسام " بتوجس:
-أنت عملت إيه بوظت العربية؟
استهجن بنبرة حزينة مفتعلة :
-صح بس هانكر .
حدق بشاشة هاتفه مصدومًا وهو يجده أغلق الخط في وجه.. يرفع رأسه لسماء مردد بمزاح :
-يعني منعدم الأمل، وفاقد الشغف، وكمان هاموت قبل ما أتجوز!

-نهاية الفصل-

إبرة و خيط حيث تعيش القصص. اكتشف الآن