الطرف الثاني

1.2K 47 4
                                    

العائلة هي الدفء و الأمان
هي أرواح تتآلف منذ لحظة الولادة و معها تتعلم الحب و الحياة !
أما عائلتها هي كارثة كبري، قنبلة نووية على وشك الانفجار بل عائلة مجنونة بالكامل من أول فرد إلى آخرهم.
الليلة الماضية لا تصدق حقًا ما حدث معها، لقد أطفأوا أنوار البيت كلها و ذهب كل واحد منهم لغرفته قبل عودتها من الخارج، ما أن دخلت البيت حتى انقبض قلبها هلعًا، البيت أقرب لبيوت الأشباح .
منذ ولدت تحب جنون عائلتها، تحب لحظات التي يخرج فيها الجميع عن حيز العقل و يبتكر، لكن أن يستخدموها أداة للعب، هذا مرفوض، مرفوض بتاتًا!
اليوم يحمل عنفوان من نوع خاص...نقلت ببصرها بين وجوهم الجامدة و كل واحد ينظر للطبق أمامه بدون كلمة واحدة !
هي لن تعتذر ..لن تعتذر مهما حدث.. "مرام فؤاد " لا تعتذر لو اصطدم نيزك بكوكب الأرض و حانت لحظة النهاية لن تعتذر...
-ماما، بابا أنا أسفة !!!!
أما والديها ظل كل واحد منهما على حاله يأكل الفطور بلا اهتمام بينما يشير لها أخيها ذا العشر سنوات هامسًا:
-دي آخرة عقوق الوالدين.
اندفعت ضحكتها صاخبة بعنفوان تشير اتجاه والدها متعلقة برقبته بحب :
-يعني عاوزاني أنزل الشغل وأنت زعلان مني؟
تطبع قبلة سريعة على جبهته كاعتذار غير منطوق :
-فؤاد باشا أرجوك اعفُ عن بنتك حبيبتك بعدين أنت عارف الكائن اللزج ده مش ممكن أتجوزه أبدًا
تهتف والدتها بتذمر :
-بنت عيب !
تبتعد عن والدها بطريقة مسرحية، هاتفة بصوت خافت :
-جطعة طبطبة لو تكرمتم؟ جطعة حنان والدين و حب أبوي بريء لو تكرمتم؟ أنا بنتكم مش بنت الجيران !!!
تتعالى ضحكات الجميع على مظهرها المخيب للآمال.. فتهجم عليهم بقبلات متفرقة على وجنتهم مرددة :
-الحمدلله أنا ربنا نصرني .
يهتف أخيها مازحًا:
-كنا عاوزين نفرح يا أختي، عاوزين نفرح وحشتنا الفرحة !
تسدد له لكمة قوية على رأسه مانحة له تحذيرات خفية أن يفتح فمه الصغير هذا مرة أخرى، و ستلقيه بعدها من الشباك..
ابتعدت تجمع أوراق عملها و حقيبة يدها متوجهة ناحية الباب منطلقة للخارج لتوقفها يد والدها الذي جذبها لأحضانه مربتًا على خصلاتها بحنان :
-مش معني إنكِ اعتذرتِ إني نسيت يا مرام، أنتِ بنتي بس ماينفعش تحرجيني قدام الراجل حتى لو مش موافقة!
رفعت وجهها لوالدها تشعر بمدى ذنبها مرددة بحرج :
-ماعرفتش أتصرف صح، أنا فعلًا طايشة بس مابحبش حد يحطني قدام الأمر الواقع..
يحرك والدها رأسه بإيجاب، يهتف بتفكير :
-مش هانتكلم مش موضوع عزت ما دام أنتِ مش موافقة، الأهم عندي تكوني واثقة في قرارك..
تردد بغمغمة خافتة :
-ربنا يخليك يا بابا..

*******

وصلت لمحل عملها بعد نص ساعة، يعد من حسن حظها قرب الشركة من البيت، تهادت بمشيتها في تحفز متجهة إلي مكتبها بإرهاق ذهني يشغل تفكيرها منذ لحظة خروجها..
هتفت بصوت مثير للسخرية :
-الحمدلله كل حاجة ماشية زي ما أنا مش مخططة لها بالظبط
عيناها تنحدر للأوراق أمامها ،هي تعمل في مجال التسويق و الإعلانات بعد تخرجها بعام واحد، لديها الكثير من الأحلام في جعبتها لا تريد التخلي عنها لمجرد الزواج !
الزواج ، والمسؤولية، والأطفال الذين تمقتهم بشدة، لا يمكن أبدًا أن تخيل نفسها ببطن منتفخ تسير في المكان بتبعثر هنا و هناك مناديةً على سعيد الحظ بمساعدتها..
لو كانت عائلتها تريد منها أن ترقص على أغنية "طلي بالأبيض طلي يا زهرة بيسان، طلي بالأبيض "
هي للأسف الشديد ترى نفسها "جرجير يافعة " تريد الرقص على أغنية "مليونير، مليونير بكرة هابقى مليونير " بكل الأشكال السوقية المنتشرة في السوق !
تطرقت ببصرها للأوراق تعيد إكمال ما ينقصها و تضيف عليها لتأخذها نفسها لعالم آخر تنسي فيه الكون، تكون فقط منسجمة مع شغفها و حبها الكبير للعمل !
طرقات خافتة جعلتها تجفل مكانها مندهشة من وجوده هنا بابتسامته المتحفزة :
-صباح الخير..
استمرت على تجاهلها له بدون التطرق للرد.. ليستكمل بمشاكسة :
-على الأقل ردي، بدل ما أطلب منك تعتذري لي على موقف أمبارح
مرت عيناها عليه باستهانة:
-أعتذر لك؟ أنت..
تضغط على شفتيها بغيط كاتمة بداخلها الوصف الصحيح لمكانته بالنسبة لها، يهتف ببساطة :
-المفروض استنيتك أنا و أهلي عندكم بس أنتِ خلفتي بالميعاد، صح؟!
-بس أنت ماعندكش أهل يا عزت !!
انتفض كيانه في وقفته المتحفزة راجع خطوة للوراء، توقع كل شيء منها بسبب لسانها السليط ولكن معايرته بفقدانه أهله ،كانت ضربة قاضية له..!
وقفت مكانها بتشتت.. تراقب تأثره الظاهر على تجهم ملامحه، لا تصدق ما قالته حقًا لم تكن يومًا بهذا السوء، لكن هو و وجوده يستفزها بكل الطرق..
تأملته للحظة بسكون متنهدة بعمق :
-عزت، أنا ماكان..
هروب الكلمات و الحروف..
شقت بسمة ساخرة طريقها لشفتيه:
-عندي اجتماع مهم مع المدير، سلام !
دقيقة و اختفى من أمامها كأنه يظهر عدم رغبته بهذا القرب المهلك.. القرب الذي كلما رغب فيه كدواء أصبح هو الداء القاتل..
انضمت بعد لحظات لهم للاجتماع مختلسة النظرات له من حين لآخر، تحاول إظهار تركيزها على عرض مقترحات جيدة لإعلان الذي يريده..!
انتهى الاجتماع بعد ساعة كاملة، حاولت البحث بعدها عنه لم تجده، تقسم أنها لم تقصد إيلامه بتلك الطريقة السيئة ..!

*****
(في المساء...)
في غرفة أخيها يتم التحضير لمؤامرة كونية، تهتف بغيط :
-كريم، بقولك إيه ها تديني مكان شغله ولا لا؟
يعبث "كريم " بخصلات شعره :
-أنا خايف أديكِ الرقم تقتليه، وقتها الشرطة هاتيجي تقبض عليَّ عشان أنا قولتلك!
تشتعل من الغيظ حيث "فرقع لوز " هذا سيجعلها تجن من كلامه :
-يا كريم يا حبيبي، مفيش حاجة تخليني أقتل عزت.
ينظر لها بشك،  مرددًا بنزق :
-أيوة فاكرة أول مرة قال لبابا عاوز يتجوزك و ماما الصبح قالت إنك و أنت نايمة قولتي هاقتله، هاعمله شاورما الحيوان !
تمنع ضحكاتها بصعوبة مندهشة من ذاكرة "كريم" الفولاذية، حيث "فرقع لوز " يتذكر ما حدث منذ شهرين كاملين!
تحاول الوصول لحل يرضيه فتهتف بمكر :
-هاديك خمسة جنيه و تقولي، موافق؟
يرفع "كريم " أصابعه العشر أمام وجهها، تعقد حاجبيها بعدم فهم هل يحمي نفسه من الحسد أم يطلب منها عشرة جنيه!
تحركت في الفراش عدة مرات في محاولات فاشلة للنوم، مازال ضميرها يعاتبها على قسوة حديثها معه !
أغمضت عينيها تتغلب على ذكريات الماضي عندما كانت بعمر الخامسة عشر انتهت يومها من الحصص المدرسية مبكرًا راحت تضحك بطفولة و هي تجري محاولة الوصول لبوابة المدرسة.
لكن أذنيها التقطت أنين خافت لأحدهم يختبئ بالظلام على مقربة من دورة المياه ..تنتقل بقدمها ناحية المكان المظلم إلا من نور الشمس الساطعة..
تفرغ فاهها بصدمة و هي تجده "عزت " جارهم الذي يكبرها بعامين، يجلس هناك متكوم على نفسه و يبكي بحزن بالغ ..
اقتربت تجلس بجواره تمد يديها تربت على كتفه بعطف متذكرة كلمات والدتها هي تخبرها صباحًا بوفاة جارتهم :
-عزت !
كان في حالة خاصة من الشجن و الحزن على وفاة والدته، جسده كله ينتفض إثر بكائه متذكرًا صراخ والده عليه بالذهاب لمدرسته وعدم السماح له بالبقاء في المنزل.
بترت سكونها بتردد رافعة رأسها ناحيته:
-ماتعيطش، أما بتعيط أنا بزعل عشانك !
-ماما ماتت، ماتت وسبتني لوحدي
ذبحتها كلماته، شعرت بمعدتها تنكمش بألم يخزها :
-تعرف بابا قالّي مرة أما حد يموت ماينفعش نعيط عشان هو بيكون شايفنا و بيزعل زينا.
تعود له بابتسامة طفيفة مشيرة لدموعه مازال أثرها على وجه :
-أنت لازم تمسح دموعك بسرعة عشان مامتك ماتزعلش منك و هي عند ربنا.. أنت بس أدعي لها بالرحمة و هي هاتعرف !
تمد له بمناديل الورقية ..يلتقطها منها بسكون غريب .
كانت أول و آخر مرة في حياتها تراه ضعيف و خائف، حيث صدمتها الثانية كانت وقت وفاة والده بعدها بشهرين لم يكن حال الناس وقتها غير جملة واحد
"ماقدرش يستحمل فراقها من كتر حبه ليها "
يوم العزاء وجدته يقف كرجل شامخ، يثبت مكانه بين الحضور يتلقى التعازي من الجميع بدون أن تسقط من عينه دمعة.. جامد كصخر ضربه الموج عدة مرات متتالية فلم يعد يخاف الموج مهما أرتفع !
بعدها انتقل للعيش مع خاله بعيد عنهم و ترك الحارة.

-نهاية الفصل-

إبرة و خيط حيث تعيش القصص. اكتشف الآن