النفر الثالث

58 15 33
                                    

اليوم الرابع..

- رششت المسامير على الطريق ودحرجت النخلة كما أمرتك؟

استفسر باسم أثناء مطالعته رسائل هاتفه بوجه تغزوه الدمامل، فرد صاحبه مرتبكًا:
- نعم.. ولكن!

فطن باسم حاله دون بوح، فأشاح رأسه عن الهاتف ونحت ملامح عبثت بها وقاحة دفينة وهو يقول محتجًا:
- عيشة الفئران تطيب لك؟ حالنا حال جرابيع القوم، بل نحن هم لا اختلاف، آه آه نسيت أنّك تكنز المال في سرايا أبيك. رحال، أنت لا تضمن توفير دواء السرطان لأمك كل أسبوع، وأختك، تجاوزت سن العنوسة واقتربت من الرقم القياسي تنتظر جينيس، وأنت؟ ترضى لنا الموت؟

حملق في عينه محتقر إياه على رعونته قبل أن يواصل:
- لن يغلبني الموت كحسان وأنتحر، الكائن لا يزال بعيدًا عن العائل ولم ينشط في أجسامنا حسب كلام الطبيب، في يدي فرصة للفرار من عزرائيل.

نكس رحال رأسه أرضًا، خضع إلى باسم ظاهرًا رغم إلحاح الجانب الإنساني منه، يعرف أنه أجبن من قتل نفس بشرية حتى وإن كان في ذلك نجاته، يجاهد في صراعه حتى يُخمد التأنيب والخوف.

فجأة، عبّر باسم عن سخطه بسبّة بذيئة قبل أن يجهر بالسبب:
- أعلموني بتواجد نفر ثالث منضم إلينا والساعة أوشكت على منتصف الليل ولم يأتِ بسلامته، عن نفسي جدير بتنفيذ العملية من دونه، وأنت؟

رد رحال على مضض:
- طبعًا، لكنّي قلق.

بصق باسم أرضًا قبل أن يحيل نظرة احتقار إليه:
- يا خسارة، امرأة في جسد ذكر، يا ليتها خلّفت ذكر بط.
              
                             * * *
كانت تلك المرة المائة وواحد التي يصقل فيها خزينة سيئاته بشتيمة لزوجته اللحوحة في الاتصال، دفعته إلى كتم الهاتف وقلبه على حاجز السيارة الأمامي ليركز في طريقه.

أخفق في كظم غيظه ونسيان الفضيحة على الملأ، فرأت الشقراء جواره أن مسئولية التخفيف عن مزاجه يدرج ضمن اختصاصها. من باب الشفقة تجرأت وملّست على وجنته مبتغيّة تحرير الغضب، نبست بعد سكوت دام طول الطريق:
- هوّن على حالك، أليس وجودي كافيًا ليخفف عنك؟ على العموم لا انتظر ردًا فكلها ساعة ويتبدل نشاطك وأحصل على إجابة.

أفرج سراح ابتسامة وقال:
- قضينا نصف ساعة في الطريق ولم ألمح إلا بضع سيارات، تبقى الكثير؟
- اكتشفت الطريق حديثًا، أقرب إلى بيتي من السابق، كما أنه شاغر من الناس، وأنت في غنى عن تثبيت الإشاعة.

طاب له اعتناؤها بأموره، واهتمامها بسمعته أمام العامة، وفي سبيل رد المعروف قدّم لها ابتسامة حنونة كفت في تبليغ مفاد مشاعره، بسمة حملت في طياتها الكثير من قصائد الشعراء، وكلمات العُشّاق. خلال انشغال بصره عن القيادة ومساعي نيل قبلة خاطفة، حان منه وقت دفع ضريبة تشتته، فتناهى إلى مسامعه صوت فرقعة خافت كان بمثابة منبّه بلّغه بوجود عطب في الإطارات. دخل في مأزق حقيقي، وستحال سهرته إلى الصباح على ما يبدو.

ترجل من السيارة وألتفّ يتفحص العجل، بدت الأخيرة ناعسة، مرتخية تعانق الأرض كتجاعيد عجوز بلغ المائة.

- هذا ما ينقصنا.

تعجّل في إصدار الحكم على الظروف العاثرة، تبقى له القليل من السوء في القعر، فوصلت إليه صرخة عالية من الشقراء في العربة حينما لمحتهم
يمشون في ناحيتهما، كلٌ منهم يحمل نبوت سميك في استطاعة خبطته إحالتك للحياة الأخرى.

- إلى السيارة بسرعة، هيا. هيا.

هرع إلى كرسي السائق ومال إلى الخلف ملتقطًا عصا بيسبول ليبسط مؤخرتها في يدها:
- دعي هذا معك، احمي به نفسك لو استدعت الظروف.

صك الأبواب ثم أحال تركيزه إلى خزانة السيارة ينبش بين الأغراض عن شيء وضعه لظروف مماثلة، في ظل أن المرأة ما برحت البكاء.

اجتاز باسم المسافة الفاصلة حتى غدا في محاذاة باب السائق، تقوس بجذعه العلوي يلثم لوح الزجاج بقبلة قبل أن يحطم زجاج السيارة الأمامي، صاح محفزًا نفسه قبل مزاولة عملية التهشيم. يحطم في تلذذ وتفاني، يحرر كيان مقيد داخله متيم بالسادية، تسربت قطرات العرق من جبينه فتطايرت مع شذرات الزجاج المكسور.

خلال هياج باسم، وتأمل رحال المشهد، فلتت منه طائشة في الفراغ فأهملت خرم صغير أخاف الأول وفرض خوف قسري على رحّال فطرح النبوت أرضًا. وهمّا ليدبرا الساحة، لكن عمر لم يمنح فرصة الفرار خاصة بعد توليه الدفة، فأطلق رصاصة أخرى إزاء باسم، كادت تنال من ساقه لكن لم يشأ القدر، فتيبسا مكانهما في فزع.

توسلت المرأة لعمر بألا يهبط من السيارة ويتركهما في حالهما، ولكنه لم يكترث وأخذها فرصة لتلقين المرسل درسًا في مع من يتعامل.

- تخال نفسك شبحًا ومتمكنًا من لوي ذراع عمر الشرقاوي.. غبي.. غبي.. أغبياء كلكم، لا أحد يفلت من قبضتي يا غجر.

رفّع باسم صوته ليشي إلى حامل المسدس عن خشية:
- أقسم أنها غلطة ولن تتكرر يا باشا، عندي أولاد ينتظروني.

قاطعه عمر بدبيب كاحله أرضًا، حركة سينمائية مفتعلة عن الجنون:
- أعرف كل شيء، لكن ضع نفسك مكاني ستستغل فرصة كبش الفداء، أعتذر شباب، استمتعت معكم، وداعًا.

لكل شخص فرصة يغتنمها، وعمر اغتنم أكثر من مستحقاته، انبطح أرضًا بعدما تناول خبطة في رأسه أفقدته التوازن. انعكست الآية فانتزع باسم المسدس منه وهو يدقق في المرأة التي أنقذت الموقف للتو قبل أن يتطور، لم يستوعب ما حدث.

تفوّهت المرأة:
- السيد مراد يعلمكما بالقدوم غدًا إلى المعمل لتلقي اللقاح بعد أن تتخلصا من عمر.

تلعثم رحال في استنكار:
- النفر الثالث في العملية!

ديستوبياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن