ما قبل النهاية المحتومة

46 11 0
                                    

اليوم الخامس..

وفدت العديد من العربات وزاحمت موقف سيارات القصر الفاره في صفوف منمقة مرصوفة بريشة فنان. ترجّل كل شخص وحده إلى الداخل واتخذ مقعده في البهو الواسع الذي هُيّأ كي يناسب نسق الحفلة غير الاعتيادي من شاشات وإضاءة ومنصة وطبول. ورغم أنها لم تكن حفلة تنكرية ولم ينوِ جعلها كذلك، غير أن مبدأ السرية فرض أقنعة ذهبية طمست ملامح كل عضو؛ ولأن واجد المبدأ فوق المبدأ فقد تخلى مراد عن القناع وتعامل بهويته الحقيقية خاصة أنهم في قصره.

تقدّم مراد إلى المنصة في هندام أنيق يوزّع النظرات على الحاضرين، وخاصة على مرتدي قناع فرس النهر:
- مرحبًا بالسادة الحضور، اليوم نحن في ظل صدد عظيم حققته منظَّمتنا النبيلة في أرجاء الكوكب، أوشكت سفينتنا من مرساها، خطوات ضئيلة تفصلنا عن مرادنا، دعوتكم الليلة من أجل إعلان بالغ الأهمية.

تحمست الأعين وتأهبت الأذهان وسط طبول دُقت استكمالًا للتقديمة، منحهم ما أرادوا وضغط على جهاز التحكم عن بعد فخمدت الأنوار، وأُشعلت الشاشة لتعرض شخص أحدث جلبة في البلاد:
- ما نراه حاليًا بن قيس مدّعي النبوة مؤخرًا، نبت في الآونة الأخيرة فجأة وخيّمت أفكاره في شريحة كبيرة من البشر، خاصة بعد أن دعمها بمعجزات على الملء، ولكن يبقى شيء مزاح عن الصورة.

انتقل إلى صورة تالية ليتراءى إلى الحاضرين صورة شاب كالح القسمات، نحيل الجسد. انتقل مراد إلى الموضوع مسترسل:
- فلّة خورشيد، أحد محطات خطتي، القليل من المكياج وتغيير في الملامح وصلعة مستعارة صار بن قيس العجوز مدعي النبوة. خال الادعاء على فئة عظيمة، وهذه الفئة كانت الأصعب وصولًا إليها وبفضل فلّة أمست الهيمنة على عقولهم سهل، الناس كانت في حاجة ملحة لطوق النجاة ليغيثهم من مرارة الحياة، وها نحن طوقناهم بما اشتهوا.

لو نزع كلٌ منهم القناع لادركت حجم المفاجأة وخمنت ما يترنح في صدورهم، أكمل مراد فكفت همهمات الكل:
- فقط ليس كل هذا ما عندي، بمساعدة صديقنا الفاضل ديفيد كارلوس تمكّنا من انتشال كائن اللا حياة من سيبيريا، بعد فحوصات أذهلت كلينا وجدنا أنه يعود إلى زمن سحيق من قبل استيطان الإنسان للأرض. عدلنا في المادة الجينية خاصته ليكون أنشط وأقوى من مثيله في الفيروسات، أجرينا تجارب على عدة شباب ولكن المحاولات لم تكلل بالنجاح على نقيض نجاحها على الفئران!

تأنى مراد برهة قبل أن يسترسل مرة أخرى مولي عبوس على ملامحه:
- للأسف الكائن كان سريع التحور في الجسم، تتغير شفرته الجينية كل فترة وجيزة، كان أسرع منّا بصورة دائمة وذلك صعّب علينا إيجاد لقاح ثابت له، كلما أخذنا المادة الجينية له تتغير فترانا نعود إلى ما قبل الصفر. ركزوا معي على الشاشة من فضلكم.

طرح عليهم صورة لشابان منكسا الرأس، أيديهم مقيدة في عجلة دائرية، وضعهم أقرب في الوصف إلى الصلب، تنوء أجسادهم ببقع حمرا.

قال مراد وهو يحاول اصطناع ملامح إشفاق:
- أبطال ضحوا بأنفسهم في سبيل نجاح التجربة، وبعد تكرار كثيف، توصلنا إلى لقاح ثابت وفعّال قاضي على الفيروس، وذلك كله بفضل تضحية باسم ورحّال منقذا الفئة الناجية منا، توسّلا إلي حتى ينالا شرف التضحية وها قد نالاها. لكن يبقى سؤال اسمع ضجيجه داخل كلٍ منكم، كيف نقلنا الفيروس للأجساد؟

تنحنح قبل أن يهديهم آخر محطة من خطته:
- تمكّنا في معاملنا من البحث بين أكثر من حيوان ناقل للأمراض حتى وقع الاختيار على البعوض، حشرة سائغة لتلك المهمة، ولأن أنثاه فحسب من يمتص دماء الإنسان ويحتك بالبشر فتمكنا من زرع الفيروس في كثير منهم استعانة بعلم الأحياء الدقيقة وها أنا أعلن نجاحنا الآن.

نهض أحد المدعوين وصاح بلكنة بريطانية:
- باركك الرب أستاذ مراد، تستحق الترشح لنوبل هذا العام.

                            * * *

أسندت ظهرها إلى الوسادة مغطية جسدها بغطاء وهي تدخن لفافة تبغ في نهم واشتياق، سارحة في دخانها غير مهتمة بحضور الحفلة المقامة في الأسفل. بينما اعتدل هو من مرقده، تأكل مقلتاه حاجيات الغرفة في إعجاب، يتجول في كل غرض موضوع ويمسحه مسحًا حتى فلتت منه:
- لا يمكنني التعبير عن مدى انبهاري بتصميم الغرفة، وخاصة رؤوس التماثيل التي لم أبصر إجابة صحيحة عن هوية أحدهم.

دسَّت طرف ظافر الإبهام في البنصر لتلتقط غبار متراكم بينما تجاوبه بلا انتباه:
- معلوماتك في التاريخ والاقتصاد تكاد تكون صفر، الأول صاحب السوالف الطويلة عالم اقتصاد وجغرافيا يدعى توماس مالتوس، والآخر ذو الذقن الكثيفة أفلاطون أشهر فلاسفة اليونان صاحب يوتوبيا.

أصغى إلى شرحها كطفل متحمس ظمآن للعلم، رغم ضخامة جسده إلا أن التشبيه في محله. أرسلت بصرها إليه إبان محاولاته في ارتداء الثياب ومغادرة الفراش فسقط نظرها على بقع حمراء حكها أكثر من مرة فبادرت بسؤاله في قلق لم تجرأ على نزعه من نبراتها:
- مصاب بالجدري!
- لا، مجرد لسعة بعوضة قبل أن آتي إلى مراد بيك.

صرّح بها بينما يدقق في ساعة يده:
- آسف مدام ريما عليّ أخذ مكاني قبل انتهاء الحفل.
- هل سأراك مجددًا؟

هز رأسه وهو يترك الغرفة في ارتباك وتشتت، كيف يجسر على فعل ذلك مع زوجة رئيسه! لو علم مراد لنفا إنسانيته ونكّل بجسده.

ولكن هنالك سؤال علينا التركيز عليه، هل الصدفة تختص عبيد دون غيرهم؟ إجابتي هي ربما، ولكن ما أعلمه أنها اختصت هذا الحارس الآن، بمحض الصدفة، فقد مرّ أحد الحرس جوار الغرفة وانصت لكل شيء في نية جهنمية.

ديستوبياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن