لو لم يقدر لي النجاة فلن ينالها أحد

38 11 0
                                    

اليوم السادس..

اختلى بنفسه عصرًا يتناول وجبته بذهن يعج بالكثير من الأفكار، قبل أن تتشارك ريما مجلسه وتتّخذ مقعدًا جواره. أسرفت في إبراز ملامحها بمساحيق التجميل لتخفي دمامل حديثة، نشعت في الجسد بغتة بعد ليلة أمس، واستقبلت تواجدها صباحًا بقلب مفزوع. مجهود يكلل به أي مجاهد لكن من المؤسف مساعيك منتقصة يا ريما، ولّيتِ دمامل واضحة على ظهر يديك مسحها مراد بعينيه أكثر من مرة في دقيقة.

التقم الزوجان الوجبات مطرقا الرأس إلى الصحون، متخذي حالات سكوت المآتم قبل أن يكفر مراد بالصمت ويردد متغزّلًا:
- جميلة كما أنت لم يبخس العمر من فتانتك، عيد مولد سعيد يا غزالي.

انفرط مزاج ريما كعادة الإناث بين تهلل لتذكّره يوم مولدها وسط وابل المشاغل المنغمس فيه، وضيق من تلميحه لعمرها الكبير، لكن على كل حال مشكورًا، وردًّا للعرفان استتبت على ثغرها ابتسامة جذلة. بادر مراد بالكلام بينما يغتنم شيء من جيبه ويريحه على الطاولة:
- حان ميعاد كعكة الحفل، اعلم أنك تشتهي الفانيليا عن باقي الأطعمة، فأمرت بطهي واحدة لك.

ختم كلامه ثم صاح على الطاهي، فحثّ الأخير الخطى وترك سكين وصحن كبير فوقه كعكة، يعتلي سطحها رقم (33). حثها مراد بنبرة مرحة خلال ارتداؤه قفازات كان قد حررها من جيبه:
- ريما، هيّا انفخي الشمع وتمنى أمنية قبل أن يذوب أو شيء آخر.

رسمت البهجة على محياها ونفخت الشمعة فخمدت وخمد معها شيء داخل مراد الذي رفع على الطاولة صندوق مغلف بورق هدايا، زحزح الصندوق إليها:
- هديتك، جاهدت على تقديم شيء يثير مشاعرك، أتمنى أن تنال ما تصوّرت من دهشة.

وانضباطًا بردود كل الزوجات كنوع من التملق المباح ردّت:
- يكفي تواجدك جواري، أماني حياتي كلها.

تلقفت الصندوق وهمّت بفتحه في حماس وعيون صبية بنت عشرة أعوام مستعدة لاستقبال فرحة غامرة.

تمهّل لحظة!
لم غلّف مراد يده بقفازات؟
وأين هي السكين؟
لا.. لا تدقق معي واستكمل المشهد مجرد لفتة سريعة.

أزالت ريما الغلاف ورفعت باب الصندوق ومعه أُزيل الفرح، فسكن الفزع وتسارع نسق تنفسها وجف حلقها، عوامل ذعر ورعب واضحة. وبمثل ظروف عمر لم تتاح فرصة، كذلك حسان ورحال كلهم اصطدموا بنفس الجدار، حائط يدعى مراد، متين لا يخترق، نهاية لا تحبذ أن تحصدها.

رفع مراد يده برشاقة وحرص أن تلثم موضعها المرغوب، فكان له ما سعى، فغُرست السكين في ظهر يد ريما لتتضاعف الآهات وتهترأ أحبالها الصوتية، فتتسرب الدموع مطرًا لا يحصى من الغدد الدمعية فارزة بلا هوادة. أجهض الجسد الكثير من الدماء على الطاولة، صنع مراد تحفته التي نافس بها دا فنشي في العشاء الأخير. قلبه راح في عطلة أسبوعية وعقله أحيل للمعاش. انتفض مراد بقوة موقعًا الكرسي على ظهره شارعًا في دندنة مقطوعة بيتهوفن (ضربة القدر) وتبختر امرأة لعوب خلال سيره، بكلتا يداه صفّق على وجه ريما وقبض عليه فأجبر عيناها على التحديق في الصندوق، تخور أوصالها ويتهاوى آخر أبراج الوعي مستلقيًا على الرمال. في صياح ملغم بغيظ أطلق مراد عباراته:
- حدقي جيدًا في رأس عشيقك، شبّعي قلبك منه، كم تمنيت لو أرسلتك معه خلال تعذيبه، لكن ثأري أخذه بيداي تلك. اتق شر من أحسنت عملًا، الغباء خطيئة أحاكم عليه كل مخيّر، غير متاح في مملكة مراد الخيانة.

نصف حديثه لم يصل إليها، أنقذها عقلها من التنكيل والصدمة فأخمد وعيها. الأنفاس تزفر مترددة من منخريها، هل ماتت؟ يشك مراد في ذلك، فطالما كانت مرهفة وهشة ككوخ ورق في حكاية نفخة ذئب.

بين حالة الهياج التي غزت نشاطه، والدماء التي مكنته من شعور السادية، حضر أحد حراسه يستأذن في الكلام، أعطى ما طلبه بعد أن صفح الصندوق الذي تموضع داخله رأس الخائن المليء بالدمامل كزوجته.
أردف الحارس:
- سيد مراد، حلت بنا مصيبة، معظم حراس سيادتك أصيبوا بالمرض إثر احتكاكهم بالخائن فعزلناهم في غرفة معملك خشية تفشي الفيروس في البقية.

لوح مراد برأسه في تفهم: 
- خير ما فعلت تعال معي.

نزل مراد السرداب الذي حوله يومًا ما إلى معمل تجاربه حتى يكون تحت إدارته، وجد سبعة حراس مغطين بدمامل مثيرة للحكة، إذن تبقى أربعة حراس لم يصابوا. حالما لمحت عيون المصابين مراد تحفّز دافع جوع البقاء، فخرجت همهمات مختلطة مفادها "احقنا باللقاح يا سيدي.. اللقاح من فضلك قبل أن ينال منا".

عبثت بنات أفكار مراد بدماغه فتوجّه بسرعة ليلبي النداء الملح، توجّه إلى خزانة حديدية، وأخرج لقاحه بعد أن فك الرموز، في نفس اللحظة التي رن جرس هاتفه برقم غريب، فاضطر مناولة أحد الحرس اللقاحات ليغرسها بهم ناصحًا إياه:
- لا يحتك جسدك بهم، أو تلامسهم دون قفازات وقائية، واحرص على إفراغ اللقاح بأكمله في أجسادهم.

أدبر المعمل وارتقى إلى الأعلى ليجيب نداء المتصل الملح من الجانب الآخر، فاستقبل المكالمة واستقبل معه نبرة صوت متذبذبة:
- سيد مراد، لو كانت حياتك غالية عليك اهرب.. احتمي.. اترك قصرك.

أتاه سؤال مراد المستنكر في جزع:
- لم؟
- شخص ما صوّرك خلال حفلة أمس وطرح خطتك علنًا على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والشعب في حالة هياج متوعدًا لك الهلاك، أهالي المصابين زاحفين إليك، وبعض المصابين يتربصون لك خارج أسوار القصر. 

تجلى بوضوح على تصرفاته الارتباك، تهدجت أنفاسه وفرغ حلقه من اللعاب، ومن دون أن ينهي الحديث بأي كلمة ضغط على إنهاء المكالمة، وضغط على لوحة الشاشة بأرقام نجاته من الهلاك، رقم دولي من أعضاء المنظمة، لم يجيب، كرر الاتصال لكن نفس الحال، لا رد من الجانب الآخر.

جسد مراد يُشوى على نيران خافتة، أتى الدور على قدره ليتلذذ بالتنكيل به، التهب جسده وارتفعت درجة حرارته، فعرج إلى كرسي يحاول مرة أخرى في هزات ساق متوترة وسريعة.

بعد محاولات مضنية ناولته الظروف فرصة أخرى، هاتفه نفس الرقم، فتعرف مراد بدوره على صاحب اللكنة:
- نعرف كل شيء، اختصارًا لثرثرتك لأن لا وقت لسماع فأر يصرخ من وقعوه في المصيدة، نحن من دبّرنا لك هذا كله وسجلنا مقطع الفيديو ليكون نهاية الخدمة، سيد مراد لقد قدمت جهود عظيمة في الخطة العالمية، والعائلة سعيدة بكل شيء قدمته ولكن دورك انتهى إلى هنا، بعد انتهاء الهرج الذي ستكون ضحيته سنبعث برجالنا لحصاد حقن اللقاح، موتة هنيئة.

لم يعرف السبب الرئيسي لضحكه لكنه ضحك حتى تمادى وشعر الشخص الآخر أنه جنّ، من بين ثنايا الضحكات الصادحة أخرجها مراد:
- من قال أن هنالك لقاح يشفي من الفيروس؟

تعجب الطرف الآخر وتمهل مواصلة مراد كلامه، لم يكف عن الضحك الهستيري وأسرف فيه:
- سبق وأعلنت بأن الفيروس تتحوّر شفرته الجينية ولا شفاء منه البتة، سيد روتشيلد، لو لم يقدر لي النجاة فلن ينالها أحد.

ديستوبياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن