الفصل الثامن

243 12 0
                                    

لبث راسکولنیکوف راقداً زمناً طويلاً. وكان يتفق له أن يستيقظ نصف استيقاظ، فكان يلاحظ أثناء تلك الدقائق القليلة أن الليل قد حل منذ وقت بعيد، ولكن لم يخطر بباله قط أن ينهض . ورأى أخيراً أن النور قد انتشر فكأنه النهار . كان مستلقياً على ظهره، وهو ما يزال على تلك الحال من التخدير . ومن الشارع، كانت تصل إليه أصوات عويل رهيبة، وهي أصوات كان يسمعها كل ليلة تحت نافذته بعد الساعة الثانية من الصباح، وكانت هي التي توقظه من نومه . قال راسكولنيكوف لنفسه:

«آ... ها هم السكارى يخرجون من خماراتهم. لا شك أن الساعة تجاوزت الثانية!»

وبوثبة واحدة، نهض على حين فجأة عن الأريكة وقال يخاطب نفسه :

«ماذا؟ أتكون الساعة تجاوزت الثانية؟»

ثم عاد يجلس على الأريكة، وسرعان ما عاد إلى ذهنه كل شيء، فاذا هو يتذكر كل ما حدث، دفعة واحدة في لحظة قصيرة .

اعتقد في أول الأمر أنه فقد عقله، وها هي ذي رعدة باردة تسري في جسمه . ولكن هذه الرعدة ناشئة أيضاً عن الحمى التي انتابته منذ مدة بينما كان نائماً، وهي تهزه الآن هزاً يبلغ من القوة أن أسنانه تصطك . فتح الباب و أصاخ بسمعه : كان كل شيء في المنزل ينام نوماً عميقاً . دهش، وألقى نظرة على نفسه وعلى ما حوله .
لم يستطع أن يفهم كيف أمكنه، في الليلة البارحة، حين دخل غرفته، أن لا يوصدها بالكلابة، وأن يرتمي على أريكته دون أن يخلع ملابسه، بل ودون أن يخلع قبعته . كانت القبعة قد تـدحـرجـت عـلـى الأرض فـهـي تـرقـد الآن قـرب الـوسـادة . تـسـاءل راسكولنيكوف : «لو دخل علي أحد، فماذا كان يمكن أن يظن؟ أكان يمكن أن يظن أنني سكران، ولكن . . . » وهرع نحو النافذة. كان الضوء منتشراً. وأسرع يتفحص نفسه من القدمين إلى الرأس ليرى إلا يزال على ثيابه آثار . ولكنه لم يلبث أن قال لنفسه إن هذه الطريقة ليست هي  الطريقة التي يجب عليه أن يتبعها، ثم نضا عنه ثيابه وأخذ يفتشها وهو يرتجف من الحمى ارتجافاً شديداً . قلب ثيابه ثم قلبها، منقباً في كل درزة . ثم لم يثق بحسن ملاحظته، فأعاد فحصها مرة ثالثة . ولكن لم يكن ثمة شيء. كان يبدو فعلاً أنه لم يبق أي أثر، إلا بضع قطرات من دم متخثر في أسفل سرواله المهترئ المنسّل . تناول سكيناً مطوية كبيرة فقص بها حاشيتي السروال . كان يبدو حقاً بأنه ليس ثمة آثار غير هذه الآثار . وتذكر فجأة أن حافظة النقود والأشياء التي أخرجها من صندوق العجوز ما تزال حتى الآن في جيبه . لم يكن قد خطر بباله أن يخرجها من الجيب وأن يخبئها، لا ولا فكر فيها منذ قليل، حين كان يفتش ثيابه . ما معنى هذا؟ وها هو ذا قد أخذ يسلها من الجيوب بمثل لمح البصر سرعة، ثم يرميها على المنضدة ، حتى إذا فرغ من إخراج كل شيء، ثم قلب الجيوب ليتأكد مزيداً من التأكد أنه لم يبق في الجيوب شيء، مضى يضعها جميعاً في أحد الأركان. ففي أسفل ذلك الركن يوجد ثقب تحت الورق الذي يغطي الجدار والذي كان منزوعاً ممزقاً. فما هي إلا لحظات حتى دس جميع الأشياء في الثقب تحت الورق، وقال يحدث نفسه : «حسن! دخل كل شيء! لا أحد رأى ولا أحد عرف! حتى حافظة النقود اختفت!» قال ذلك فرحاً وهو ينهض عن الأرض وينظر ببلادة إلى الركن وقد أصبح ورق الحائط منتفخاً على نحو واضح . ارتعش من الرعب، ودمدم يقول يائساً :
رباه! ماذا فعلت؟ أهكذا يخبأ شيء من الأشياء؟ »

الجريمة والعقابحيث تعيش القصص. اكتشف الآن