الفصل السادس:
" هل هذه هي النهاية؟!"
القبيلة؛ هي مجموعة من الناس ينتمون في أغلب الأحيان إلى نسب واحد، يستقرون في بقعة جغرافية واحدة وتجمعهم مبادئ وثقافة ولهجة واحدة، تختلف عن المحيط الخارجي وما حولهم، ذلك المحيط الذي في كثير من الأحيان هو مجهول بالنسبة لهم، غريب لا يفقهون له مفهوما ولا معنى، يمثل فقط خطرا، بكل حداثته وتطوره وتقدمه، خاصة لدى بعض القبائل البدائية المنتشرة هنا وهناك.
قبائل لم تعرف لها الحداثة ولا التطور العلمي سبيلا، قبائل لا زالت تعيش في عصر ما قبل الميلاد، عصر بدائي لم يتأثر لا بالتغيرات التي يشهدها العالم، ولا بالحروب التي خاضها في العصور الماضية، لا يعرفون لا دينا ولا عقيدة، الطبيعة الأم هي كل ما يعرفونه، منها مأكلهم وملبسهم ومشربهم، وإليها يعودون، يعيشون حياة خالية من التعقيدات، يحيون اليوم بيومه ولا يفكرون في ما هو قادم، ويرون أن كل ما هو غريب ومجهول؛ خطر.
أسدل الليل ستائره على الجميع، صمت مريب حل على ذلك المكان، تحرك مصطفى قليلا من جانب ديهيا التي تتدثر بتلك الطرحة، التي وهبها إياها الزعيم، وقد غالبها النوم من شدة الجوع، حيث أن أفراد القبيلة لم يقدما أي أكل لهما، وبمجرد أن خرج أنسيو الزعيم، انفض الجمع الغفير الذي كان يملأ الساحة، عدا عن ذلك الحارس عن المدخل.
التفت يمينة ويسرة يحاول رؤية شيء ما، يفكر بفعل أي شيء للخروج في أسرع وقت ممكن من تلك المصيبة التي وقعا فيها، فالمعلومات التي أتت على ذكرها ديهيا الليلة الماضية لا تبشر بالخير، وجودهم بين أيدي قبيلة كتلك القبيلة التي لا ترحم شيء خطير، وما حدث اليوم أخطر، فسجودهم عند قدميها واعتبارها آلهة يعبدونها نذير شؤم؛ وصولها إلى تلك الرتبة يعني عدم تخليهم عنها مهما يكن.
الظلام كان حالكا إلا من نور القمر الذي يطل عليهم من السماء وكأنه يرشدهم إلى سبيل خفي للهروب، رفع رأسه لتلتقي عيناه مع عيني الحارس الذي كان يتأمله بهدوء، ابتسم ببلاهة وهم بالعودة إلى مكانه عندما سمع صوت أنسيو يهتف باسم ديهيا مرفقا بكلمة أخرى، التفت نحوه ليجده قادما حاملا بيده عصا مشتعلة وجماعته تتبعه، لينقسموا عند وصولهم إليه ويذهب مجموعة منهم لوسط الساحة يشعلون النار وهم يهتفون بصوت عال "يِيهِدَا بُويَانَاجَا".
وقف أَنْسْيُو أمام مصطفى، الذي كان جاثيا على ركبتيه، ثم مد يده نحوه ليستقيم الآخر، وتحدث بصوت هادئ: "يِيهِدَا بُويَانَاجَا" ثم مد رأسه نحو الداخل ليراها تغط في نوم عميق.
اتبع مصطفى نظراته ليراها تتجه نحو تلك التي لا تشعر بأي شيء حولها، فقطب جبينه بغضب حاول مداراته، وقال بالإنجليزية، غير آبه بفهم الذي أمامه لها من عدمه: "إلى ما تنظر؟ وماذا تقول؟.." قاطعه أنسيو وهو يتقدم نحو الأمام، ليقطع طريقه هاتفا بانفعال "ما الذي تحاول فعله؟ أقتلني قبل أن تمر وتلمس شعرة فقط منها".
نظر إليه أَنْسْيُو بطرف عينه، دون أن يتحرك أو يلتفت نحو، حين صاح مصطفى باسم ديهيا لتستيقظ الأخرى، من نومة أهل الكهف تلك، بهلع وتراهما يقفان بجانب بعضهما البعض وملامح الزعيم لا تبشر بالخير أبدا، لينقل الأخير عينيه نحوها وتتبدل ملامحه فور رؤيته لها، وتعود الابتسامة لتسكن محياه مجددا ثم يخر ساجدا أمامها مرددا: "يِيهِدَا بُويَانَاجَا"
رفعت ديهيا رأسها نحو مصطفى الذي ظل على حاله ولم يلتفت لها، وقفت وذهبت ناحية أَنْسْيُو وقلبها ينتفض بين ضلوعها، تشعر بالخوف مجددا، ابتسمت بوجل له وهي تقدم الطرحة، إلا أنه أوقفها وأعاد تلبيسها إياها مجددا، ثم أخذ بيدها بلطف ليخرجها من تحت السقف حين توقفت فجأة؛ استدار نحوها وفي عينيه تساؤل واضح ليرى يدها الأخرى في قبضة مصطفى، بينما هي الأخرى في الوسط تزدرد ريقها خوفا، فيبدو أن الاثنان لن يتفقا أبدا.
عادت إلى الخلف تحدث مصطفى بصوت خفيض، بعدما سمعت من هم في الخارج يرددون نفس الجملة التي قالها زعيمهم: "يبدو أنهم ينتظرون آلهتهم لتطل عليهم، وقد جاء هو لإخراجها من محرابها".
ضغط على رسغها بقوة يخرج الكلمات من تحت أسنانه: "لن تخطي خطوة واحدة نحو أولئك الهمج من دوني.. لن أسمح لأي منهم بالاقتراب منك.. وأنت الأخرى لن تقتربي من أي ذكر فيهم.. وهذا أولهم"
همست باسمه تتوسله أن يبعدهما عن المشاكل، ليلين وجهه وهو يتقدمها إلى الأمام ويده أبت أن تفارق معصمها، فيحذو أَنْسْيُو حذوه ويُخرجا للجماهير الهاتفة معبودتهم الجديدة.
جلس الجميع أرضا، حيث جلست مِيرَايِّ زوجة الزعيم إلى جانب ديهيا تبادلها الحديث غير المفهوم، وتتحسس بطنها بين الفينة والأخرى، وقدم لهما بعض أفراد القبيلة سمكا نيئا تم اصطياده من الشاطئ ربما كوجبة عشاء شعر مصطفى لرؤيتها بالغثيان الشديد، بينما ديهيا التي تجاوره، ابتلعت ما قدم لها دون مضغ، تحاول مجاراتهم والحفاظ على الهدنة الموقعة بينهم.
بدأت الطبول تقرع والهتافات تعلو، ثم فجأة صمت مطبق، وقف أَنْسْيُو وخطى خطوتين نحو ديهيا ليتحفز جسد مصطفى الجالس بجانبها، أخذ بيدها لتستقيم في الوقوف ويقف الآخر معها، تمتم ببعض الكلمات غير المفهومة، ثم جاء رجلان يحملان غصني شجرة وقد ربطا إلى بعضهما البعض برباط متين، وقطعة قماش كبيرة تشبه تلك الطرحة التي على رأسها قد وضعت في الوسط وتم ربطها هي الأخرى بالغصنين، ليصبح الشكل الأخير يشبه حمالات سيارات الإسعاف.
قادها للجلوس عليه، ليتم حملها على الأكتاف من طرف ثلاث رجال رابعهم أنسيو، وبدأوا بالسير مرددين وهاتفين "يِيهِيدَا بُويَانَاجَا" ليخر ساجدا كل من يمر عليه الموكب، ويبتلع مصطفى ريقه بوجل وهو يشاهد ما يحدث، الأمر يزداد سوءا وليس باليد حيلة.
لف الموكب على الجميع، ثم توقفوا في الوسط وبدأوا برفعها عاليا لعدة مرات وكأنها لا تزن شيئا، لتصرخ هي بهلع بالإنجليزية تحاول التماسك: "أَنْسْيُو أيها الغبي أنزلني أرضا سأقع"
إلا أن أَنْسْيُو كان في عالم آخر تماما، لقد وجد شيئا غالي الثمن لن يفرط فيه أبدا، هي فقط من تستطيع أن تأتي له بابن يشبهها، يختلف عنه وعن أفراد قبيلته، هي فقط من رأى فيها الشجاعة والبأس، وهي أيضا جميلة حسناء اكتشف دلالة اسمها دون وعي منه أنه قد فعل.
صرخة أخرى انفلتت منها، ولكن هذه المرة الكلام الذي تلاها كان موجها لمصطفى الذي يقف جامدا لا يتحرك: "شرشبيل أيها الأحمق أنت كذلك، اجعلهم يتوقفون عن فعل هذا، لست وسادة يرمونها عاليا لتعود إليهم.." رفع رأسه نحوها وهو شارد، لا تعلم فيم يفكر ولا أين قد وصل بخياله لتردف "مصطفى.. ألم تخبرني بأن لا ذكر سيقترب مني؟ هيا افعل شيئا"
نفض رأسه وقد عاد إلى الواقع مرة أخرى، لقد كان يفكر في ذلك المستقبل المجهول المظلم الذي لا يرى فيه أي بريق أمل، ثم تقدم نحوهم ووقف أمام أَنْسْيُو وأشار إليها بوجه جامد قائلا: "بَاوْ جِيلَا" ثم أشار إلى بطنه ورسم إشارة القتل على رقبته.
جحظت عينا الأخير عندما فهم ما يشير به، سيموت ذلك الطفل إذا ما استمروا في فعلتهم، لينزلوها إلى الأسفل وتركض هي نحو مصطفى تحتمي به تغمغم بتذمر: "دَوْخُونِي رَبِّي يَدِّيهُمْ(يأخذهم) انْ شَاء اللَهْ.. همج متخلفين"
أمال أَنْسْيُو رأسه ينظر إليها مبتسما بوداعة؛ كانت عيناها مغلقتين لتفتحهما فجأة وتراه يقف مبتسما، قفزت في مكانها ثم ابتسمت هي الأخرى عندما رأته، ثم أشارت له بحاجبيها كدليل كلمة (ماذا؟) ليشير إلى كوخ بين الأشجار يشبه المكان الذي وضعا في الليلة الماضية؛ ويقول: "أَنْجَا.. سَا" واضعا يديه تحت أذنه ورأسه يميل نحو اليمين قليلا مشيرا إلى وضعية النوم.
ابتسم مصطفى وديهيا براحة شديدة، وأخيرا سيرتاحان قليلا من شد الأعصاب الذي لازمهما طوال اليوم، ودخلا إلى الكوخ المشار إليه ليقف ذلك الصبي الذي لا يفارقهما خارجه؛ جلسا بإنهاك على قطع القماش المسجاة أرضا، ليلتفت مصطفى نحو ديهيا التي كانت تضم ركبتيها إلى صدرها يتوسدها رأسها وتغمض عينيها بهدوء، يمرر عينيه على صفحة وجهها، لا يدري لم يريد أن تكون صورتها الشيء الوحيد الذي تراه عيناه، يخاف عليها، يريد أن يحيمها، أن لا تفترق عنه ولو لوهلة.
لتمر الأيام بعدها بسرعة محملة بالعديد من المغامرات لهما، في كل مرة يتعلمان كلمة جديدة للتحاور معهم، مصطفى يلف ويدور حول المكان يستكشفه، يراقبهم، يحاول تعلم ما يفعلونه عله يحتاجه في وقت ما، ليصيبه الغثيان الشديد عندما يأتي موعد الطعام، فالسمك النيئ الذي يقدمونه لهم لا يرضيه ولا يستطيع تقبله.
أما ديهيا، فقد كانت مشاعرها تتأرجح بين الثانية والأخرى، ترتاح لوهلة، عندما تنتفض رعبا في اللحظة التي تليها، حيث تجلس على صخرة صباحا، وفي كل لحظة يمر عليها أحدهم يصيح مبجلا إياها، تنتفض هي من صياحه ذاك بعد أن تكون قد سرحت بخيالها الذي أصبح يعبث بها، فقدت الأمل في النجاة من هذه الجزيرة، وأصابها اليأس الشديد لذلك، ستنتهي حياتها على هذه الأرض معبودة هؤلاء القوم، تلفحها الشمس كل صباح وهي تجلس وسط الساحة، لتغادرها بعدها محاولة الاندماج وسطهم، تضحك وتمرح مع الجميع، فلا حل لها غير هذا، وطالما هم مسالمون معهما، ستستغل هذه النقطة إلى أبعد حد، على الأقل تحافظ على حياتها وحياة ذلك الذي وقع معها، والذي لا تعرف أين يغيب عنها.
انطفأ ضوء النهار وانسحب من الفضاء ليأخذ الليل مكانه، وتتلألأ نجومه فوق تلك القطعة حالكة السواد وتجعلها أكثر جمالا وروعة. اجتمع أفراد القبيلة، يتزعمهم أَنْسْيُو ومِيرَايِّ وديهيا؛ ومصطفى الذي يأخذ مكانه وسطهم رغما عن أنف الجميع، جلس الجميع أرضا بينما النار تشتعل ويرتفع لهيبها في السماء عاليا، دقت الطبول على نغمة هزيم الرعد، بعد أن علمتهم ديهيا إياها، لتصبح وكأنها نشيد رسمي خاص بهم، ثم تجتمع النسوة في صف واحد، تضعن أوراق النخيل على رؤوسهن وتحملن بعضها، ترددن كلمات أغنية لم يستطيعا فهم أي حرف منها، وتتحركن نحو اليمين مرة ونحو الشمال مرة أخرى كرقصة دون التحرك من مكانهن، فقط الخصر هو من يتحرك بهدوء؛ وكانت ديهيا ومصطفى يحذوان حذو الرجال ويصفقون معهم من أجل الإيقاع.
فجأة؛ وقف أَنْسْيُو، ذلك الهادئ دائما والذي لا يستطيع أحد فهم ما يجول بداخله، ينظر بانتباه لكل ما يفعلانه، حركاتهما، محاولات ديهيا تعليمهم أشياء جديدة، يركز في كل شيء وكأنه يريد سبر أغوار بشر لا يشبهونهم في أي شيء عدا الجسم، والذي هو الآخر يختلف لون بشرته؛ ثم أخذ يدق أحد الطبول ويغني، الزعيم الذي كانا يظنان أنه مترفع عن الجميع يغني، هو ليس كذلك، هو واحد منهم، هو فقط الأقوى والمتزن، لهذا تسلم قيادتهم.
بدأ يغني وهو مبتسم، بينما النسوة تكرر وراءه: "دَانْدَايُو وَايِ أَيْنَايُو أَيْنَايُو دَانْدَايُو وَايْ"
ثم أخذت مِيرَايِّ بيديهما وأدخلتهما مع الجوق، ليرددا الكلمات بعد أن بذل مصطفى جهدا معتبرا كي يستطيع نطقها، لتصفق ديهيا عند الانتهاء هاتفة بكلمة "برافو" ويضع أنسيو يده خلف رقبته خجلا، فهذه أول مرة يغني أمام الغرباء، وتنتهي الليلة بعودة الثنائي إلى الكوخ وديهيا تردد تلك الكلمات التي لا تفقه لها معنى، في الطريق إليه.
نظر إليها مصطفى ممتعضا:" بذمتك إنتِ فاهمة كلمة؟ إيه بتزيطي وسط الزيطة وخلاص؟ بتغني معاهم وخلاص؟ مش يمكن يطلع كلام وحش، كلام مش كويس؟ إيه يا شيخة ارحميني، ولا عايزة تبقي البنت الجنية اللي فاهمة كل حاجة وبتلقطها وهي طايرة؟"
التفتت إليه رافعة حاجبها: "نَفْهَمْ وَلَّا مَانَفْهَمْشْ، غُنْيَة عَجْبَتْنِي نْغَنِيهَا.. " ثم هزت كتفيها بقله حيلة "علينا أن نتعايش معهم، ليس من صالحنا التعنت، لا تنس أنهم أصحاب الأرض ونحن الدخلاء"
دخلا إلى الكوخ والصمت يخيم عليهما، تربعا أرضا وكل منهما يبحر في محيط خاص به لا يلتقيان أبدا، هي تفكر في كيفية الخروج من الورطة التي أوقعت نفسها بها، عليها إقناعهم بأن ما تحمل في رحمها قد توفي، كيف ذلك؟ لا تعرف؛ ربما عن طريق تسلق شجرة والقفز منها! حسنا عليها أن تختار عضوا من أعضائها لكسره كي تستطيع تنفيذ التمثيلية بنجاح، ستتحمل الألم لا يهم، فجبر الكسر أهون من الإتيان بولد.
أما هو، فيتذمر ويراجع ما حدث معه منذ أن وقعا في الأسر؛ أي منذ أسبوعين .. أسبوعين متتاليين في هذا الجحيم المستعر، لم يمر بموقف سيئ كهذا من قبل، والأسوأ أنها معه، يعلم الله أنه لم يكن ليتعذب هكذا لو كان بمفرده، لكن نظراتهم التي تتفحصها من أعلى لأسفل وكأنها تسير بينهم عارية تقتله بسكين بارد.
ليس وكأنها لا ترتدي شيئا، بل على العكس؛ ترتدي أفضل من أي منهم يسيرون شبه عرايا بلا حرج، والأدهى من أين سوف يأتي الاثنان بطفل بعد عدة أشهر؟ ما هذه الورطة السوداء؟.
صحيح أنها تتعامل بمرح كعادتها وتحاول تجاهل خوفها لنظراتهم المتفحصة طوال الوقت للون بشرتها الفاتح وشعرها الحريري مقارنة بشعرهم، هذا من جهة، والطعام المقرف الذين يقدمونه شيء آخر تماما، طعامهم لا يمت للآدمية بصلة لا من قريب ولا من بعيد.
"يكفي أقسم بالله يكفي!"
لم يعي لنفسه وهو يتفوه بهذه الكلمات، لتلكزه هي بمرفقها: "ما بك؟"
سحب نفسا عميقا: "سوف نهرب من هنا، لا يمكنني احتمالهم ولو ثانية واحدة، يكفي قسما بالله يكفي" وأوشك على البكاء "معدتي لم تعد تحتمل أي من هذا الهراء اللعين".
قطبت جبينها: " هل تعي ما تقوله؟ بعدما قررت التعايش مع ذلك تأتي أنت على ذكر الهرب؟ إلى أين سنهرب في هذه الجزيرة؟"
" أي مكان بعيد عن هؤلاء البشر، سوف يكون أفضل مكان بالعالم كله، لا يمكنني احتمال صراخهم أو سخافتهم لثانية واحدة"
اعتدلت في جلستها وقالت باهتمام: "هل فكرت بطريقة ما؟ سكوتك واختفاءك الدائم ذاك جعلني أشك في الأمر"
هز رأسه بيأس: "لدي خطة أفكر بها منذ مدة لكن عليكِ بعدم الابتعاد عني كي لا نتفرق ثانية، غدا بعد الغروب سوف نهرب من هذا الطريق" وأشار إلى اليسار " سوف ندعي الذهاب للكوخ من أجل النوم بعد مضي بعض الوقت من ذلك الاجتماع اليومي حول النار، ومن ثم سنهرب طوال الليل، لن يكتشفوا ذهابنا قبل اثني عشرة ساعة، هذا الوقت أكثر من كاف للهرب من هنا"
وضعت فكها بين إبهامها وسبابتها مفكرة: "حسنا لنجرب، ولكن تذكر، الخطأ سيكلفنا حياتنا هذه المرة.." أومأ بإيجاب لتردف "سأقوم أنا بإلهاء أَنْسْيُو والابتعاد عن مِيرَايٍّ قليلا كي لا تبدأ ثرثرتها غير المفهومة"
لتغرب شمس اليوم الموالي ويحل الليل على الجميع بسرعة ويبدأ الاجتماع، وتبدأ معه ثرثرة ميراي وهي تتحسس بطن ديهيا كعادتها التي دأبت عليها، مر بعض الوقت وبدأت ديهيا تشعر بصداع مصطنع، بدأت تمسد صدغيها والألم يتجلى على ملامحها، فقد تغضن وجهها ألما لينتبه لها كلا من أَنْسْيُو ومصطفى، أشار أَنْسْيُو بكلمة ماذا لتجيبه بالإنجليزية والألم يقطر من صوتها: "رأسي يؤلمني" مشيرة إلى رأسها.
أمسك مصطفى بيدها يساعدها على الوقوف؛ قائلا: "أَنْجَا.. سَا" ليومئ أَنْسْيُو برأسه بهدوء مودعا إياها بعينيه وهما ينسحبان من أمامهم إلى الكوخ الذي هربا من خلفه بمجرد دخولهما إليه.
ركض الاثنان بالاتجاه الذي أشار له مصطفى، كان التوقيت ممتاز، فلا أحد في الغابة في ذلك الوقت، فالجميع ملتف حول النار يغنون، بعد نصف ساعة من الركض المتواصل بين أحراش الغابة وقفا يلتقطان أنفاسهما.
سألته ديهيا: "هل ..سنعود إلى .. الشاطئ؟"
هز رأسه بسرعة: " لا لا يمكننا هذا أول .. مكان سيبحثون عنا به" كان الجو صامتا تماما ما جعله يكتم فمها ويسأل هامسا: "هل تسمعين شيئا؟"
بعد برهة من اتساع عينيها والانصات أزاحت يده وهمست هي الأخرى: "خرير مياه!"
هز رأسه: "بالضبط .. هيا لنتبع الصوت"
سارا بهدوء يتبعان الصوت إلى أن وجدا ينبوع مياه يصب بجدول صغير همس مصطفى: "رائع كدت أن أموت من العطش هيا لنشرب"
شربا حد الارتواء واغتسلا، ثم جرها مصطفى إلى الغابة مرة أخرى وهو يرمي الأغصان والتراب على آثار أقدامهما؛ سألته: "ألن نتبع الجدول؟"
"بلى؛ لكن تلك الأرض الطينية ستفضح مكاننا، سنتبع الجدول من الغابة وانتبهي جيدا لابد وأنهم خبراء في التتبع"
"حسنا أيها المحقق توغوموري"
سارا بخطوات سريعة أشبه بالركض طوال الليل، يلجآن إلى الجدول عند التعب ثم يعودان إلى السير مرة أخرى. أوشكت الشمس على الطلوع وبدأ النهار يبزغ من الأفق وقد نال منهما التعب، وقفت ديهيا منحنية على ركبتها تلهث بقوة: "الجزيرة .. لم أتوقع أنها بهذا الحجم.. مطلقا، إنها هائلة"
هز رأسه وهو يلهث هو الآخر: "يجب أن نختفي.. عن الأعين لمدة أسبوع على الأقل، ثم علينا البحث عن وسيلة للهرب من هذه الجزيرة تماما"
أمسك ذراعها وجرها نحو منحدر بالطريق رغم تذمرها: "لمَ علينا سلوك الطريق الصعب؟"
دون أن يلتفت لها: "هذا مكان جيد للاختباء، سوف نتغطى بأوراق الأشجار إذا ما اقتربوا من هنا"
نفضت أوراق الأشجار التي التصقت بوجهها أثناء ما كانت تنزل إلى الأسفل: "وكيف سنهرب من هنا بالضبط أستاذ مصطفى؟"
أخرج السكين، الذي وجده صدفة في أحد الأكواخ ولا يعرف كيف وصل إلى هناك، إذ أنه لم ير أفراد القبيلة يستعملون شبيها له، بل كل أدواتهم بدائية الصنع وليس السكين من ضمنهم، من خلف ظهره: "لقد وجدت هذا بينما كنت آخذ جولة بين الأكواخ لأرى كيف يربطون لحاء الأشجار ببعض، وتعلمت منهم كيف تصنع الحبال، أعلم بأنه ليس بالكثير لكني على استعداد قضاء عام كامل في بناء قارب يخرجنا من هنا على.." وأمسكها من ذراعها يهزها لكن بلطف يريد أن يحمسها لا أن يعنفها "على أن أعيش بلا أمل في الرجوع.. ديهيا لا يمكنني احتمال هذا، يقتلني مجرد التفكير بالأمر .. أفضل الموت وأنا أحاول على أن أعيش هنا ما تبقى من عمري، هل تثقين بي لفعل هذا؟"
هزت كتفيها وابتسامة حزينة ترتسم على محياها: " لا شيء أحب إلي من العودة إلى عائلتي، أصدقائي وعملي، لكن هذا مستحيل صدقني"
ابتسم بثقة أكبر يهزها بحماس أكبر هذه المرة: "أنا سوف أتكفل بأمر بناء القارب وتوفير الطعام للرحلة، وأنت عليك مهمة إخراجنا من هنا، استجمعي كل معلوماتك التي تعرفينها عن هذه الجزيرة اللعينة كي نستخدمها في الخروج من هنا"
هزت رأسها موافقة على مضض، لا تعرف بالضبط كيف سيفعلانها لكنها ستحاول، رؤية عائلتها مجددا تستحق المحاولة، وإن لم ينجحا فشرف المحاولة يكفي، على الأقل لن تشعر بالجبن.
انتهى ذلك المنحدر أخيرا وتسللا إلى الجدول مجددا للشرب ثم أعادها إلى داخل الغابة مرة أخرى، جلست ديهيا تستريح وترفع شعرها، الذي التصق بجبينها بسبب الركض والعرق، على شكل كعكة أعلى رأسها، تمطت وتثاءبت بعمق، فهي لم تذق للنوم طعما منذ البارحة، ناهيك عن الرحلة الشاقة التي خاضاها.
كانت الشمس قد توسطت بينما يحتميان منها تحت ظل الغلاف الذي تشكله فروع الأشجار الكثيفة، جلس مصطفى هو الآخر يستريح إلى الشجرة المقابلة لها ولم تنتبه له ديهيا وهو يتأملها وهي تفرك عينيها، التي سيطر عليها النعاس، بعفوية، تمدد رقبتها يمينا ويسارا، هو نفسه لم ينتبه إلى أنه يتأملها هكذا، يتشرب كل تفاصيلها وأدق حركتها، لم تعد لامبالاتها أو برودتها المزعومة تضايقه بشيء، بل بات يعلم تماما أنه غطاء تخفي خلفه خوفها، تحاول تشتيت رعبها بالروح المرحة، هذه طريقتها لتجاوز المحن، وأصبح ينتظر رد فعلها القادم كلما وقعا بمصيبة؛ وما أكثرها.
لم يعلم ما هو شعوره وما هو سرها؟ شيء واحد هو أكيد منه، الطعم المر للوحدة والهجران الذي لم يفارق حلقه منذ خيبة أمله بحب عمره ووفاة والدته؛ ضاع، لم يعد له وجود منذ دخولها إلى حياته عنوة، وهذا السبب كان أكثر من كاف ليحافظ عليها.
انتبهت إليه يحدق بها بشرود، عيناه تتبع كل حركة تقوم بها دون أن يرف له جفن، بينما ابتسامة رضا تزين محياه؛ تنحنحت بخجل وهي تحاول ترتيب شعرها: "هل هنالك شيء ما على وجهي؟"
ارتبك مصطفى ووقف سريعا وأشار نافيا: "لا لا.. نامي قليلا سوف أبحث لنا عن شيء نأكله في الغابة" وذهب وكسر عدة أغصان بسكينه ووضعها حولها حتى اختفت خلفها تماما، ونزل على ركبتيه وأمسك كفها برقة: "انتبهي لنفسك، لن أغيب لأكثر من نصف ساعة.. ارتاحي قليلا" ترك يدها ببطء وابتسامة هادئة على وجهه، واتجه إلى عمق الغابة يحاول أن يعلم الأشجار بالسكين كي لا يضل طريقه أثناء العودة.
اختفى خلف الأشجار تاركا إياها تشعر بحرارة وجنتيها المشتعلة تحرقها، ابتسامته وإمساكه لكفها برقة وكأنه خائف من أن يكسر جعلاها تشعر بمشاعر ظنت أنها لا تستحقها، أنها لن تشعر بها مجددا بعد وفاة هشام، توردت وجنتاها وهي تتذكر معاملته لأَنْسْيُو كلما اقترب منها، يكشر أنيابه في وجهه وكأنها تخصه وحده، وكأنها لم تخلق إلا له، كما لم يخلق هو إلا لحمايتها والسهر على راحتها.
لا تعرف لم تشعر بوجود شيء يجمعها به، إحساس وُلِدَ بهدوء وكبُر دون أن تدري هي به، لا يمكنها التأكد من شيء، كل ما عليها فعله هو ترك الأمور لتأخذ مجراها كما هو مقدر لها أن تكون.
***
بعد ربع ساعة من البحث داخل الغابة وعندما هم بالرجوع بخفي حنين خائب الرجا إليها لمح ثمارا خضراء تتدلى من إحدى الأشجار، ركض نحوها سريعا وقطع بسكينه العنقود خاصتها، كانت سميكة للغاية حتى أنه استخدم السكين لفتحها وتذوقها بحذر بالغ، خضراء من الخارج برتقالية اللون من الداخل لها طعم مقبول إلى حد كبير، ليست شديدة الحلاوة لكنها أفضل بكثير مما تناوله بذلك المكان المقزز.
تذوق قطعة صغيرة للغاية ثم قطف أربعة آخرين، عليه الآن انتظار ساعتين على الأقل كاختبار للحساسية، يتمنى كثيرا أن تكون تلك الثمار صالحة للأكل، والأهم من ذلك أن تتناولها ديهيا، لابد وأنها تتضور جوعا الآن مثله.
خمسة ثمرات هو كل ما استطاع حمله وعاد بسهولة بفضل العلامات على الأشجار التي تركها عند دخوله. عاد إلى حيث تركها ليجدها متكورة على نفسها تغط بنوم عميق، هزها برفق: "ديهيا .. ديهيا.."
غمغمت وهي تبعد يده عنها: "أَمْشِي"
ثم عادت إلى قوقعتها مرة أخرى فهزها: "ديهيا لقد أحضرت طعاما يجب أن أعلم إذا ما كنت متحسسة منه أم لا عليك بتذوقه، لأنه لو لم يناسبك سوف يتوجب علينا البحث من جديد عن طعام آخر"
"مَاسِينْ رُوحْ مَارْقَدْتْشْ(إذهب لم أنم) حَتَّى لَلْصْبَاحْ.. مَانُّوضْشْ(لن أستيقظ) أَمْشِي سَامَطْ(سمج) نْتَا" قالتها بانزعاج شديد.
مرجح شفتيه بحسرة: "يا حبيبي دي بتكلم أخوها وتلاقيها ضربت أتنين رز بلبن مع الملايكة" ونظر إلى الثمار بيده، لا أعراض لديه إلى الآن لكن عليها التجربة، فلم ير أحدا من قبل قط يتقيأ من جوز الهند غيرها، ترك ما بيده أرضا وذهب إلى النهر وملأ كفيه ومن ثم سكب المياه فوقها وابتسامة شريرة مرتسمة على وجهه.
شهقت وهي تستفيق بفعل المياه والتصقت غرتها بمقدمة رأسها، صرخت: "كَاشْ وَاحَدْ يْنَوَّضْ وَاحَدْ هَكَّا؟ نْتَا بْنَادَمْ وَلَّا وَاشْ!(هل يوجد شخص يوقظ الآخر هكذا؟ أنت إنسان أم ماذا!)"
انفجر ضاحكا لشكلها الطفولي ووجنتيها الحمراوين كطفلة في الخامسة أغضبها أحدهم، قرص وجنتها بخفة: "صحيح ديهيا كم هو عمرك؟"
ربعت قدميها وهي تزيل بقايا الماء بيدها: "ثلاثون سنة، وأنت؟"
بحلق لها غير مصدق: "فعلاً! مش باين عليكي خالص، أنا قولت بالكتير 24" ثم أفاق من ذهوله وهو يهز رأسه "أنا في الخامسة والثلاثين"
دندنت: "البَارَحْ البَارَحْ.. كَانْ فِي عُمْرِي عَشْرِينْ.. يَا حَسْرَاهْ عْلَى عَشْرِينْ" ثم ابتسمت "طْوَالَة الَعْمُرْ إنْ شَاء اللَهْ"
تنهد مبتسما: "ليا وليكي، اممم أنا لقيت فاكهة مش عارف نوعها إيه أكلت قطعة صغيرة كاختبار للحساسية وعاوزك تجربيها إنتِ كمان" ومن ثم ناولها قطعة كي تتذوقها.
نظرت إليها بتوجس ثم أخدت قطعة صغيرة جدا، وضعتها على طرف لسانها لتجد أن طعمها ليس بذلك الطعم الرائع، ولا ببشاعة جوز الهند، ابتلعتها وأخذت حبة أخرى: "قَشَّرْهَالِي"
رفض وأخذها منها: "شاكرين لمجودك العظيم، الآن تستطيعين العودة إلى النوم مرة أخرى" وبدأ في وضع الأغصان من حولها من جديد.
وقفت رافضة بتعنت: "وَاشْنُو!(ماذا!) توقظني من النوم ثم ترفض إطعامي؟ ما هذا يا هذا!"
لوح لها بلامبالاة: "لا داعي لتلك العصبية ونامي وبعد ساعتين إن استيقظت بلا حكة أو بثور أو التهاب رئوي حاد يفقدك القدرة على التنفس، سوف أتركك تأكلين ما شئت منها" كان يتحدث معها ببساطة شديدة وكأنه يخبرها بأكثر شيء طبيعية بالعالم.
مدت يدها تحاول أخذها منه: "جِيبْ هْنَا.. لم يخبرك أحد بإخباري أعراض الحساسية.. أود أن آكل، فمنذ أن وقعت على هذه الجزيرة الغبية وقد تغير نظام أكلي"
رفعها أمامها وتحدث بشقاوة: "وأنا الآخر ليس لدي أي مانع في تقشيرها لك على أن نتفق من الآن إذا ما ظهرت عليك أي من الأعراض سوف أمنحك قبلة الحياة دون تردد" ولاعب حاجبيه بمهارة "وهذا لإنقاذك من الاختناق بالطبع".
قفزت لأخذها منه: "تْبُوسَكْ لَفْعَى(أفعى) انْ شَاء اللَهْ، أفضل أن أموت على أن تنقذني أنت.. جِيبْ الحَبَّة هْنَا"
باعدها خلف ظهره: "يبقى تجيبي البوسة الأول احتياطي"
توقفت عن الحركة وهي تحملق به بأعين متسعة على آخرها: "تْبُوسَكْ لَفْعَى.." ثم أعادت يدها إلى جانبيها وأردفت "لا أريد شيئا منك، سأذهب للبحث وحدي"
انمحت البسمة اللعوب من على وجهه: "ديهيا مش وقت التهريج بتاعك، أنا خايف عليكي منها، ثم مش مسموح لك تحت أي ظرف تدخلي الغابة أو تتحركي من المكان ده أصلا، إنتِ ناسية أن القبيلة زمانها قالبة الدنيا علينا دلوقتي، نامي شويا وبعدين أصحي كلي"
هزت رأسها معترضة: "مَاتْخَافْ عْلِيَّا مَا وَالُو.. خْلَاصْ طَارْ النْعَاسْ.. كَاشْ مَا خَلِّيتْ فِيهَا رْقَادْ بَالْمَا دْيَالَكْ"
فتح فمه ببلاهة: "ممكن تترجمي آخر مقطع بس"
لوت شفتها: "من أين يبدأ؟"
فرك رأسه بحيرة "كَاشْ مَا .. ، مش فاكر الباقي"
"كَاشْ مَا خَلِّيتْ فِيهَا رْقَادْ بَالْمَا دْيَالَكْ.. وهل تركت نوما بمائك.. ترجمة حرفية لا معنى لها، فمخي لا يعمل حاليا بسبب الجوع"
رفع كفيه مستسلما: "أعتذر منك آنسة ديهيا، لقد تماديت لكني كنت أريد تجربة الفاكهة عليك، فإذا لم تناسبك بحثت عن أخرى، المهم ما الذي سوف نفعله هنا؟ أفتقد حقا الشاطئ كان ممتعا أكثر من هذا المكان"
بعثرت نظراتها في كل مكان: "معك حق، الشاطئ أفضل من هذا النهر بكثير، فهو واسع وهذا ضيق" ثم فركت وجهها بكفيها وأردفت "حسنا سأجلس هناك وأنتظر، بعد مرور بعض الوقت سأستعيد تلك الحبة من جديد"
تنهد بارتياح: "وأخيرا آنسة ديهيا، لم كل نقاش معك صعب؟ أنت حقا عنيدة"
رفعت حاجبها: "لا أحب أن يفرض أحدهم رأيه علي، لي مطلق الحرية في فعل ما أريده دون المساس بالغير"
"ولكنك عنيدة والعند ليست صفة جيدة أبدا خصوصاً للفتيات الصغيرات" قالها بشقاوة.
"العند أسلوب حياة يا صديقي" قالتها وهي تتنهد وتهز كتفيها ببساطة.
تنهد بإحباط منها وجلس أمامها يسند ظهره على جذع إحدى الأشجار: "حسناً، بعد عدة أيام سوف أذهب إلى الشاطئ لجلب الحقائب والسترات وقارورات المياه الفارغة سوف نحتاج إليها بالتأكيد في البحر"
هزت رأسها نافية تطقطق بلسانها: "أَنْسَى، لا نريدها، لن نعود إلى هناك، لقد انتهى الأمر، يجب أن نتدبر أمورنا من هنا"
لم يبدو أنه سمعها بالأساس فقد بدا سارحا في شيء آخر تماما، همس بشرود وهو يراقب النهر: "هل تتناولين جراد النهر؟"
أصيبت بالتبلد، هل حقا ما سمعته حقيقي؟ التفتت إليه ببطء ودون أن تعي لنفسها كانت الكلمات تخرج منها: "يَعْ، كُولْهُمْ وَحْدَكْ، هَدَاكْ مَا بْقَالِي غِيرْ الجَرَادْ بَرْكْ اللِّي مَازَالْ مَاكْلِيتُوشْ(هذا ما ينقصني، الجراد فقط الذي لم آكله بعد)، نْمُوتْ وْمَانَاكُلْهُمْشْ، يَعْ"
ضحك عليها بعدما شتت انتباهه: "طعمها لذيذ يشبه إلى حد كبير للجمبري وسرطان البحر الذي وبالمناسبة لم تتقززي منه، على أية حال لاحظت أن النهر مليء بها إذا ما أردت يمكنني توفير وجبة سريعة لك منها"
استدارت نحوه بكامل جسدها قاطبة جبينها: "معدتي غير قادرة على التحمل، لا تقارن بين الجمبري وسرطان البحر وبين ذلك العفن الذي تتحدث عنه.. هذا وأنت الذي كنت تشمئز من السمك غير المطهو مع القبيلة.. حقا سبحان مغير الأحوال"
رفع كفيه مستسلما: "لست أنا من يتضور جوعا، لك ما شئت" وربع يديه وعاد إلى الخلف يستريح.
وقفت وهي تهز كتفيها بلامبالاة: "حمدا لله أن لي قدمين ويدين صالحتان للاستعمال" وسارت ناحية النهر، تحاول تفادي الطين إلى أن زلت قدمها.
في البداية تركها تذهب للنهر لربما تشعر بالعطش إلا أنه وبلحظة واحدة سمع صراخها، ركض نحوها سريعاً وحملها من المياه لكنها كانت تتألم بشدة أخفت رأسها بصدره وكتمت تأوهاتها، سألها بذعر أثناء ما كان يريد إعادتها إلى مكانها: "ديهيا إيه اللي واجعك بالضبط بتعيطي ليه مالك؟"
ازدردت ريقها كي لا تصرخ: "رَجْلِي.."
أنزلها أرضا وتفحص قدمها سريعاً، فتعالى صراخها بصوت أعلى، ارتبك أكثر واعتذر منها سريعاً: "آسف آسف، يبدو أن كاحلك التوى" مزق أسفل قميصه سريعاً وذهب إلى النهر وغرف مياها كي ينظف جرحها من الدماء، لم تكن كثيرة مجرد جرح سطحي، نظفه وربط كاحلها.
صرخت بألم، ودون أن تدري كورت قبضتها ونزلت بها على رأسه هاتفة: "رَجْلِيي.. هَادِي(هذه) رَجْلِي يَا بْنَادَمْ مَاشِي حَطْبَة(ليست خشبة).. كِي(عندما) نْقُولْ زَهْرِي(حظي) كْحَلْ وَاحَدْ مَا يْغَالَبْنِي(يجادلني)"
تأوه وابتعد عنها يحك رأسه بألم: "دبشة أقسم بالله ومدب أنا الحق عليا إني قلقان عليكي وبحاول أساعدك، بدل ما رجلك تتشال مفيش شكرا، مرسي، بوسة على خدي عشان شلتك على قلبي لحد هنا، هو إنت متأكدة أنك بنت زي البنات، بدل ما تكوني منهارة ودايخة نزلتي على دماغي بإيدك اللي زي السطور دي"
صاحت به: "تْبُوسَكْ لَفْعَى(أفعى) انْ شَاء اللَهْ، عْلَاشْ(لماذا) لَازَمْ نَدْخُلْ غَيْبُوبَة بَاشْ(لكي) نْكُونْ كِيمَا(مثل) الَبْنَاتْ.. كِي(عندما) تْعَامَلْ رَجْلِي كِيمَا النَّاسْ نَقُولَكْ شُكْرًا"
أشار إلى قدمها بقلة حيلة: "رجلك مجزوعة ولا مكسورة الله أعلم، أتصرف إزاي؟ مش لازم أرجعها مكانها وأربطها ولا عندك أفكار تانية؟!"
نظرت إليه باستعطاف تلوي شفتها نحو الأسفل: "لَازَمْ تْرَجَّعْهَا يَعْنِي؟ بَالَاكْ(من الممكن) التواء كاحل عادي"
نظر بمسكنة إلى الناحية الأخرى: "متبوصليش البصة دي نقطة ضعفي" وعاد إلى ربط قدمها من جديد وحاول أن يكون رقيقا قدر الإمكان، أنهى ما يفعله ومن ثم نظر لها بعطف "ألف سلامة عليكي، متتحركيش من مكانك ولو احتاجتي أي حاجة قولي لي وأنا أجبها ليكي" ذهب إلى الثمار وبدأ في تقطيعها وتقشيرها وعاد إليها "عندك أي أعراض الحساسية؟"
هزت رأسها نافية بينما الدموع عالقة تأبى النزول.
"حسناً تناولي هذا ربما نسيتي الألم قليلاً، للأسف لا شيء هنا لتسكين الألم"
أومأت وهي تأكل بتلذذ ما قدمه إليها، همست بصوت خفيض ونبرة متألمة: "شكرا"
"عفواً فقط كوني بخير داهية أرجوك، يكفي لقد تدمرت أعصابي تماماً منذ أن وجدونا وهم يريدون أخذك يعتقدونك إله، وعيونهم تأكلك طوال الوقت، لقد تدمرت أعصابي بما فيه الكفاية، رجاء فقط استمعي لي هذه الفترة أخشى أن يجدونا مرة أخرى وصدقيني إن لم يقتلوني فور رؤيتهم لنا، لن يدعونا نغيب عن عيونهم ولو للحظة وقتها سوف يكون الهرب ضرب من الخيال" تنهد يلتقط أنفاسه المتلاحقة "علينا التزام الحيطة والحذر إلى أن يملوا ويفقدوا الأمل من وجودنا على الجزيرة"
تنهدت بهدوء: "لقد اعتبروني آلهة بسبب هزيم الرعد، لا أدري ما دخلها ولكن هذا الذي حدث"
وقف مصطفى: "لا عليك الآن، سوف أذهب لتجهيز مكان كي تنالي قسطا من الراحة" ذهب لإعداد شيء ما أقرب إلى العش يخفى من بداخله تماماً. نفض يديه عندما انتهى وعاد إليها وحينما رفعت رأسها له نزل على ركبة واحدة وحملها برفق.
شعرت بخجل شديد منه حتى احمرت وجنتيها وضربات قلبها تدق بتناغم غريب ظنت أنها قد نسيته منذ زمن ولم تعي بنفسها وهي تضع ذراعها خلف رقبته، وقف على مهل وعيون كل منهما تعلقت بالآخر، ظل واقفا هكذا لا يعلم لمتى ولكنه يعلم تمام العلم أن قلبه لم يخفق بتلك القوة من قبل؛ صوت عال لأحد الطيور فقط من أخرجهما من غرقهما ذاك، أفاقت لنفسها سريعاً وتململت بين ذراعيه ولعقت شفتيها لكن كانت جافة بشدة، ولاحظ هو ذلك.
سار بها إلى العش الذي صنعه ووضعها برفق بالغ داخله ولم تنظر له مرة أخرى لكنه لاحظ أن وجهها مشتعل بشدة، جلب سكينه والثمرة المتبقية وحتى قشور الثمار التي تناولها وأخفى أي أثر لهم بالمكان، ثم غسل يديه جيدا وملأها بالمياه وعاد إليها، اتسعت حدقتيها عندما رأت المياه بكفيه ولكنها شربت منها فهي عطشى وخيار السير إلى النهر لم يكن متاحا حاليا، عاد إلى النهر ثلاث مرات أخرى حتى ارتوت تماما، وفي كل مرة كان يسقيها وتمسك هي بيديه، وفي كل مرة شربت هي المياه من كفيه كان الشعور بداخلهما يكبر، شعور لذيذ ورائع بفراشات تطير بمعدة كل منهما، تمنيا ألا يذهب على الإطلاق.
"تصبحين على خير" تمتم لها بهمس، هزت رأسها هي الأخرى وكأنها تخبره وأنت بأهل الخير وشكرا على المياه لكن لسانها لم يكن عونا لها في تلك اللحظة، وتفهم هو الموقف، وبداخل العش الصغير هذا وضع جذعا مليئا بالأوراق الخضراء كفاصل بينهما كي لا تشعر بالحرج، لو عليه لبات خارجه لكنه يعلم أنه سوف يغط بنوم عميق ولن يستطيع سماع خطوات أهل الجزيرة إذا ما اقتربوا منه.
وأثناء تفكيره هذا غط بنوم عميق فجأة دون أن يشعر، وحدث نفس الأمر لديهيا التي تسألت في نفسها: "إن كان هناك حسنة لهذه الجزيرة فهي الاستغراق في النوم بسرعة غير معقولة، أين السهر والأرق؟"
***
صوت رائع لسمفونية تفننت العصافير في عزفها أيقظ مصطفى: "مش معقول نمت يوم كامل!"
تحدث بهمس غير مصدق، نظر من بين الأغصان التي تغطيه وجد أن النهار بالكاد ظهر "جيد؛ يوم جديد بعيد عن أولئك الغوغاء إذا ما تمكنت من الهروب منهم لعدة أيام ربما يظنون أننا رجعنا إلى السماء أو شيء من هذا القبيل، ويفقدون الأمل في البحث عنا"
فك القليل من تشابك الأغصان وراقب ديهيا التي تغفو وهي واضعة كفها أسفل خدها "يا إلهي كم تبدو صغيرة وهي بهذه الوضعية من الجيد أنها نائمة" في الحقيقة يتمنى لو تبقي كذلك لأطول فترة ممكنة، لأنها عندما تستيقظ لا شيء هنا كي يعطيه لها كي يخفف من ألمها.
مد يده وأعاد خصلة متمردة إلى خلف أذنها بهدوء بالغ وابتسامة تشق شفتيه، تنهد قليلا بصوت واضح أثناء ما كان يراقبها ومن ثم تسلل إلى الخارج آخذا أدواته معه، لم يتبقى من الثمار سوى واحدة ونصف، صحيح أن حجمها كبير للغاية إلا أنه لن يكفي الاثنين، قد تكفي تلك الكمية ديهيا وحدها فهو لا يريد تركها وهي بتلك الحالة، لا تستطيع الركض أو الدفاع عن نفسها، الله وحده يعلم ما تخفيه الغابة لهما.
سحب نفسا عميقا وتسلق إحدى الأشجار القريبة وتلفت بجميع الاتجاهات، لا أثر لحيوانات على الإطلاق، مجرد طيور، والأجمل من ذلك لا أثر لأي من أفراد القبيلة.
نزل إلى الأرض مرة أخرى وقد ابتهج يومه ذهب إلى النهر للاغتسال، مشط لحيته الخفيفة بالمياه جيدا، من الجيد أنها لم تطول وتضايقه وهو أمر غريب للغاية، فذقنه تنمو بكثافة وسرعة رهيبة، هز أكتافه غير مبالي: "ربما لتغير نظامي الغذائي".
عندما انتهى استفزه مظهر جراد النهر الذي يسبح بحرية كبيرة في النهر وكأنه غير معتاد على الهجوم، عاد بظهره وصنع شيئا ما يشبع الوعاء من الأغصان وأوراق الشجر العملاقة كي يحتوي الجراد به، ومن حسن حظه أن النهر مليء بالحصى، بإمكانه إشعال النار. قام باصطياد كمية كبيرة للغاية من جراد النهر باستمتاع تام، فقد كان يراه بوضوح والمياه صافية والنهر ليس عميقا أبدا، أشعل النيران بصعوبة فشعيرات جوز الهند كانت تلتقط الشرارة من الحصى بسهولة، سبب آخر كي يعود إلى الشاطئ، سوف يملأ حقيبة بثمار جوز الهند، أشعل النيران وتعمد أن تكون بسيطة للغاية كي لا تلفت الانتباه بالدخان، ومن ثم أخذ منها حبات الجمر ووضع عليها الجراد وبدأ في الشواء خاصته وقطع على ورقة نظيفة النصف ثمرة لإفطار ديهيا.
استيقظت تتثاءب من نومها وتمطي كل من يديها بحرية في الهواء، أزاحت الفرع الذي كان يفصل بينها وبين مصطفى ولكنها لم تجده واشتمت رائحة شواء، أيعقل أن يكون قد اصطاد سمكا؟ كانت معدتها تتلوى من الجوع ولا تصدق أنها نامت كل هذا الوقت، همت بالوقوف سريعا إلا أن ألم قدمها كان رهيبا فجلست بإحباط مرة أخرى، تفرك قدمها التي سوف تعوقها تلك الفترة ثم زحفت على أربع إلى الخارج فوجدته يشوي شيئا ما على النار، إلا أنه ليس سمكا، ويضع على ورقة شجر عملاقة قطع مقشرة تشبه الروبيان كبير الحجم، وعلى ورقه أخرى ثمار الفاكهة الخاصة بالبارحة، مقشرة ومقطعة بقطع أنيقة ومتساوية.
ابتسم لها مصطفي حالما رآها وذهب سريعا لمساعدتها كي تتكأ عليه: "صباح الخير ديهيا كيف حالك الآن؟ الفطور جاهز، هيا اغسلي وجهك واشربي وتعالي من أجل تناول الفطور"
ابتسمت له بصفاء تحييه بإيماءة صغيرة وهي تتقبل مساعدته لها: "صْبَاحْ الخِيرْ عْلِيكْ، كِي صْبَحْتْ اليُومْ؟"
أجابها بعفوية: "بخير.. لقد جمعت بعضا من جراد النهر وشويته.." قطع كلامه عندما رآها تنظر إليه شزرا ليردف ضاحكا "لا تقلقي، لقد جهزت لك ما تأكلين، فذلك لي أنا فقط"
هزت كتفيها وهي تمشي ببطء شديد كي لا تضغط على كاحلها كثيرا: "بْصَحْتَكْ.. أنا أستغني عن أكله تماما" ثم نزلت إلى النهر لإنهاء مهمتها وتلتحق بالأكل.
تناول الاثنان الطعام بشهية لأول مرة وقد ابتهج صباحهما بالحرية، يا إلهي ما أبشع الوقوع في الأسر. ابتلعت ديهيا ما بفمها وتحدثت بجدية بعد عدة أحاديث جانبية ودية بينهما: " حسنا، لقد تكلمت عن الهرب من هنا، هل أنت جاد في ما تقول؟"
كسر مصطفى رأس الجراد الذي أمامه بالحصى وتناول ما بداخله بتلذذ: "فقط لو كنت أملك القليل من الملح!" ثم نظر إليها وتحدث بجدية: "لدي خطة"
" أطلعني عليها"
هز رأسه موافق وترك ما بيده: "أعترف أن الإمكانيات ضعيفة للغاية، لكن الحسنة الوحيدة لظهور تلك القبيلة هي أننا عملنا أين نحن، وحسب كلامك سابقا، فرغم عدم منطقية الموقع بتاتا مقارنة مع مكان تحليق الطائرة، لكنها فرصة وأريد أن انتهزها، ليس علينا الوصول إلى جزر الأندمان، كل ما علينا فعله هو توفير لوح يحملنا ومياه للشرب وطعام يكفينا لعدة أيام إلى أن يجدنا خفر السواحل المسؤول عن حماية الجزيرة" أخرج السكين أمامها "سوف أقوم بتقطيع الأشجار والأغصان التي أجدها وأعمل على تجميعها علي شكل لوح يطفو بنا على سطح المياه"
هزت رأسها مستفهمة: "كيف؟"
"لقد تعلمت أثناء تواجدنا هناك كيف يصنعون الحبال، يقومون بتقشير اللحاء من الأشجار الرفيعة وتضفيره ليصنعوا به حبالا، سوف أقوم بجمع الأغصان بواسطته، وبإمكاننا صنع شيء بسيط كي نختبئ تحته من أشعة الشمس، وسوف أعود إلى الشاطئ كي أجلب الحقائب والقارورات لحفظ المياه وعدة ثمرات من جوز الهند وحبات من تلك الشجرة العجيبة التي تناولناها، وربما أتمكن من تدخين بعض الأسماك من هذا النهر، سوف أجمع كل ما يمكننا من الصمود في تلك الرحلة، أما أنت.." وأشار نحوها "أنت من سوف يتكفل بخروجنا من هنا"
أشارت إلى نفسها ببلاهة "أنا! كيف؟"
"من أين سوف نذهب وإلى أين نتجه؟ هذه مهمتك أنت عليك باستجماع كل المعلومات التي لديك كي نتمكن من الذهاب في الاتجاه الصحيح".
أكملا الأكل وأطفأ النار سريعا وأردم التراب عليها كي لا تفتعل الكثير من الدخان وحفظ باقي الطعام بالعش خاصتهم، قضيا اليوم يتحدثان عن طفولتهما ومواقف مضحكة تعرضا لها أثناء الدراسة، وعن علاقة ديهيا بوالديها وأخيها، وحكى لها هو الآخر الكثير من الأشياء عن والدته ومواقفه السعيدة معها بصرف النظر عن تجاهل والده له، أشعرته أنه الكون ولا شيء آخر أهم لديها منه.
تجمعت الدموع بعينيها أثناء تحدثه عن والدته، كم كانت علاقة مميزة حقا وانتهاءها تلك النهاية الأليمة حطمه تماما، إلا أنه شاب آخر عن ذلك الذي قابلته بالمطار أول يوم، متكبر؛ مغرور، ويهتم بنفسه زيادة عن اللزوم، بدا الآن مصطفى الحقيقي أفضل بمراحل.
حملها في المساء بين ذراعيه على غفلة منها، شهقة صدرت منها ليبتسما لبعض بحميمة، وينتهي ذلك اليوم الرائع وكل منهما يراقب الآخر من خلف الأغصان، إلى أن سقطا بالنوم بمنتهى السهولة.
***
استيقظ مصطفى صباحا بوجه بشوش، لم يكن ليبالغ إذا ما قال أنه أفضل يوم بحياته على الإطلاق، من كان ليخمن أنه من الممكن أن يحصل على كل تلك السعادة لمجرد أنه قضى يومه يتحدث إلى شخص يرتاح له قلبه؟.
داعب وجنتها برفق: "ديهيا، ديهيا هيا استيقظي أريد قضاء اليوم كله معك وليس نصفه مثل البارحة"
تململت ترفض الاستيقاظ: "رُوحْ أَخْطِينِي(دعني)"
ضحك عليها: "لا لن أدعك هيا أيتها الكسولة، سوف أصطاد لك السمك لابد وأنك مللت من تلك الفاكهة، هذا العرض لمدة دقيقة واحدة فقط " قالها بعبث وهو يشاكسها بأحد وريقات الشجر كي يزعجها في نومها.
تجاهلته ظاهريا إلا أن عرض السمك بدا شهيا للغاية في تلك اللحظة، نفضت الورق الذي يضايقها به عنها وقامت بانزعاج: "حسنا حسنا ها قد استيقظت أريد السمك بسرعة لأنام مرة أخرى، لا أعلم لم من بين جميع الركاب أقع مع شخص مزعج مثلك!"
ضحك مقهقا عاليا، بدت كطفلة حرمتها والدتها من دميتها المفضلة منتفخة الوجنتين وغاضبة بحنق، خرجا من العش خاصتهم وما إن اقترب بها من النهر حتى شاهد سمكة كبيرة للغاية تكفي لإطعامهما يومين على الأقل: " يا إلهي ديهيا، لو تمكنا من اصطيادها سوف نأكل ليومين متتالين دون عناء"
"وكيف ستمسك بها؟ ألا ترى حجمها".
خشي أن يذهب لجلب غصن فتهرب منه، فتمتم بعزم وهو ينزل إلى النهر: "بيدي العاريتين"
تسلل بهدوء في المياه ودون سابق إنذار قفز عليها واحتضنها بقوة بالغة، وديهيا تراقبه بدقة شديدة؛ وقف وصرخت هي بحماس: "هل تمكنت منها؟!"
كان ظهره لها؛ التفت صارخا رافعا السمكة إلى الأعلى وصرخت هي الأخرى بشدة متحمسة للغاية، ثم عاد إليها بخطوات واسعة يجتاز مياه النهر، مد السمكة إليها بفرح: "أنظري إليها كم هي كبيرة"
مدت يدها لتلمسها بذهول، وما إن لامستها أصابعها حتى انتفضت السمكة بقوة جاعلة كليهما يشهقان عاليا لقوة المياه التي رشقتهما بها.
***
"يرجى من السادة الركاب ربط حزام الأمان والاستعداد للهبوط بمطار "كينجس فورد سميث" الدولي"
"ديهيا.. السمكة.. سوف تهرب.."
"من فضلك سيدي يجب أن تستيقظ لقد أوشكنا على الهبوط، سيدي رجاء أفق"
"ديهيا .. ما ماذا؟!"
شهقة أنثوية إلى جواره جعلته يحاول بقوة أكبر كي يفتح عينيه ليجد المضيفة منحنية عليه بقلق تحدثه بإنجليزية أنيقة: "آسفة سيدي، نحاول إيقاظك أنت والآنسة منذ فترة لكن بدا وكأن كل منكما فاقد للوعي"
اتسعت حدقتاه برعب حتى رجعت المضيفة للخلف مذعورة، وتمتم بالعامية المصرية غير مصدق: " إحنا في الطيارة!" والتفت إلى جواره في نفس اللحظة التي تفتح فيها ديهيا عينيها بصعوبة بالغة، فقد قدرته على النطق تماما، كل منهما ينظر إلى الآخر برعب والمضيفة تشاهدهما بتوتر بالغ.
"رجاء سيدي لا وقت لدينا لابد من ارتداء حزام الأمان الآن" أصرت المضيفة علي كل منهما، ليبدوا وكأنهما يمران بصدمة عصبية صعبة، ينظران إلى بعضهما غير مصدقين، والعيون جاحظة كما لم تكن من قبل.
بيد مرتعشة ربط كل منهما حزام الأمان وتنفست المضيفة الصعداء، هذين الراكبين غريبين، لقد استغرقا في النوم في النصف الثاني للرحلة وكل منهما يصرخ ويتحدث أثناء نومه، حتى أن الركاب استدعوها مرتين وحاولت إيقاظهما لكنها فشلت تماما، أما الآن وأثناء الهبوط؛ لابد لهما من ربط الحزام مما أضطرها إلى رش القليل من الماء على وجهيهما.
كان مصطفى يلهث بشدة، تمسك بالمقبضين غير مصدق وعينيه التي تحدق بذعر لا تفارق وجه ديهيا المرتعبة تماما، تنظر له بخوف وتتوزع نظراتها بينه وبين الطائرة والركاب،خاصة ذلك الطفل الجالس وراءها ويحدث والدته بفرح، وكأنها لا تصدق أنها بالطائرة مثله تماما، هو لا يصدق أنه بالطائرة وأن كل تلك الأيام التي قضاها معها على جزيرة منعزلة في المحيط مجرد حلم لا أساس له من الصحة.
فتح فمه أكثر من مرة كي يتحدث معها ويسألها، هل حلمت به هي الأخرى؟ يستحيل أن تكون كل تلك المشاعر التي مر بها وداعبت قلبه بعد سنين طوال من العذاب أن تكون.. أن تكون وهما.. سراب لا وجود له في الحياة الحقيقية، تأوه يسألها: "هل.. هل.." ولكن صوت تحذير ضرب عقله "أصمت أيها الغبي سوف تسألها عن ماذا؟ سوف تتهمك بالجنون حتما.. أصمت.. فقط أصمت".
ما ألمه حقا وجعل قلبه يشعر بوغزة؛ اللهفة في عينيها تنتظر سماع سؤاله حتى أنها همست بصوت مضطرب: "ما الذي تود سؤاله؟"
دقات قلبه ازدادت عنفا، تتحدث بالعربية الفصحى، حفظت العهد في الأيام الأخيرة لم تحدثه إلا بالفصحى كي لا تثير غيظه.
إضطراب جوي حدث أثناء الهبوط جعله يتمسك بكرسيه وجعل ديهيا تشهق شهقة صغيرة ماسكة ذراعه تحتمي به، وحالما لمسته انتبهت إلى أنها اعتصرت الساعة فوق معصمه، وانتبه للساعة هو الآخر فشهق كل منهما بنفس اللهفة "الساعة!!" وقتها فقط لمحت ديهيا بطرف عينها الشاشة الصغيرة أمامها والتي كانت تعرض برنامجا وثائقيا مصورا عن قبيلة التولامبي التي تقطن في غينيا الجديدة، وهي تقابل لأول مرة رجلا أبيضا، ليحذو مصطفى حذوها ويشاهد ما كانت تراه، وتتعلق نظرات الإثنين ببعضها البعض، وقد تأكد كل منهما أن الآخر رفيق حلمه.
نزلا من الطائرة يتقدمان خطوة ويؤخران أخرى، يمشيان بالقرب من بعضهما البعض، كل منهما يشعر بكلام على طرف لسانه، يود الخروج، يطالبهما بإطلاق سراحه لمعرفة الحقيقة، هل حقا حلما بنفس المنام؟ أما حدث حقيقة بعينها أم حلم طال أمده؟
يلتفتان فجأة لبعضهما البعض وكلهما عزم بالسؤال، إلا أنه وعند التقاء العيون، تتخضب الخدود باللون الأحمر ويبقى السؤال في مكانه يتمنى الحرية، ليفترقا عند باب الخروج، أين وجدت هي صديقتها ووجد هو من ينتظره، لم يُرِدْ؛ ولم تُرِدْ؛ الابتعاد، وكأنهما قضيا عمرا بأكمله مع بعض، وكأن الذي حدث كان حقيقة لكليهما لا حلما غريبا تشاركاه بطريقة أغرب، حتى أنهما لم يستطيعا التحرك إنشا واحدا عن الآخر.
يود لو يخطفها ليتعرف عليها أكثر، ليشرب المزيد من تصرفاتها التي يتذكرها بحذافيرها، طفلة بجسد امرأة كاملة الأنوثة، عاد إليها يطلب رقمها، كيفية التواصل معها، لا يريد أن يفقد ذلك، لا يريد أن يقطع الاتصال بها، متى سيتصل وكيف ولم؟ لا يعلم، كل ما هو متيقن منه أنه وبلا شك لا يريدها أن تصبح غريبة عنه.
شعرت بالسعادة الخفيفة تغزوها عندما سألها الرقم، فهي الأخرى، تشاركه الأمنية وتود تحقيقها، سألتها مارلين صديقتها عن هويته، لتجيبها ببساطة أنها التقت به في مطار دبي، غافلة عن قصد عدم سرد ذلك الحلم العجيب، ذلك لأنها متيقنة من عدم تصديقها.
كل منهما ذهب بطريق، بينما تلك البذرة بداخلهما ما تزال تنمو وتكبر، ليمر أسبوعين على وجود مصطفى فوق الأراضي الأسترالية، وعلى عودة ديهيا إلى حياتها من جديد، كل منهما انغمس في تحديات العمل نهارا، ليحتلا التفكير ليلا، بدأت مشاهد الحلم بالاندثار من الذاكرة، إلا أن الأسماء أبت ذلك، وتناست هي أمره، فقد اعتقدت شيئا وما حدث كان شيء آخر، لم يتصل بها ولو للحظات على مدار الخمسة عشر يوما.
أنهت يومها عشاءها، جهزت وعاء الفشار واتخذت الأريكة مجلسا لها، تجمع شعرها في كعكة فوضوية، بينما لم تتخلى عن البيجاما طوال اليوم، ضغطت زر تشغيل الفيلم ليرن هاتفها في نفس الوقت، حملته لتجده رقما غريبا، لم تزعج نفسها بالرد فهذه عادتها، لا ترد على الأرقام الغريبة أيام العطل، حتى وإن كانوا من العمل؛ فجأة، قفز اسم كان يتوارى خلف إحدى أبواب الذاكرة، لتهز رأسها تنفض تلك الفكرة عنه، فهو لم يتصل منذ أسبوعين، لذلك؛ لن يتصل.
تكرر الرنين مرة أخرى، يبدو أن هذا الشخص مصمم، زفرت بضيق وفتحت الخط، وقبل أن ترد جاءها صوت من الناحية الأخرى يهتف باسمها بلهفة مشتاقة: "ديهيا!"
انتفض فؤادها بين جنباتها، لا تعلم كيف ولا متى، إلا أنها متأكدة من اشتياقها لسماع صوته، هتفت وهي تمسك بالهاتف بيديها الاثنتين: "مصطفى!"
أنت تقرأ
حبيت داهية
Humorسلسلة بكل فصل نبضة الفصل: الصيف العنوان: حبيت داهية بقلم: آمنة منصور وهالة الشاعر تدقيق: آمنة منصور - هو... - هي... - أمقته... - لا أطيقها... - لا أفهمه... - تقول طلاسم... - وكأنه/ها يحضر/تحضر تعويذة سحرية... - تدفع...