*إقرأ لي *

56 5 5
                                    

تردد لهاثه بذلك الممر,لا يشوب العتمة بها سوى ضوء المصباح الرقراق ..
التفت يمنة و يسرة بعينين جاحظتين و لو امتلك بقية من ثبات لتفحص الممر قطعة قطعة لكن اللعنة على الادرينالين الذي يستحث  عليه الركض كما لو أن التوقف يعني موته تحت سنابك الخيل..
صيحات خشنة تتعالى من الوراء،لا مجال لتعثر درامي و إلا وقع بقبضة هؤلاء الوحوش العتاة..
رغم احتراق أعصابه و خوفه لكنه لم ينسَ التربيت على حقيبته المكتنزة ، ضمها بعمق لدرجة أن استدارة الحقيبة تحولت لما هو أشبه بمدرجات أستاذ  عالمي..يعلم قطعا أن محتوى الحقيبة لن يجعله يمر من فعلته مرور الكرام لكن اندفاع الادرينالين بشرايينه يصلح عذرا يواجه به نفسه عندما يعثر عليه مخبأ..
أبصر ثنية بإحد جانبي الممر لينجلي له سبيل مضمون للهرب.. إن حاول أحد تلك الحوائط البشرية الدخول منها سيعلق بها إلى يوم يبعثون..
حمد ربه كثيرا على نحول بنيته ثم انحنى على ركبتيه ..بجهد عظيم استطاع الوصول لما تقضي إليه الثنية..
حك رأسه و هو يتأمل تلك الأرفف المزدحمة بتلك المجلدات السميكة المليئة بأوراق لم تعد بيضاء..أو "كتب"كما يسميها معشر القارئين
رائحة الكتب الطازجة تقتحم حواسه و تخدره ببطء، لن يعود لاتهام الناس بالخبال عندما يتبخترون بتأثير الكتب حديثة الاصدار لأنه حاليا يخوض بغمار تلك التجربة..
تسرب الاطمئنان لقلبه المرتعش و هو يرى أن كل ما يحيط به جماد مسالم..لن تَثُب إحدى الموائد من مكانها لتسلم لصا تعيسا مثله لقوات الشرطة..قوانين الفيزياء لا تخطئ و هذا ما يعتمد عليه..
أراح بدنه على كرسي و هو يتلاعب بخصيلات شعره البنية بينما سوداوتيه مثبتتان على حقيبته العزيزة..
بيد مرتعشة أزاح الرباط عن فم الحقيبة و قبل أن يتطرق لإجراء آخر، لمح ظلا كئيبا يرتعش على الأرضية مقتربا..
ندَت منه صيحة عندما ارتطمت حدقتيه بوجه امرأة تعتليه البشاشة مختلطة بالأسى...
....
-"اذا أنت دخلت من تلك الفتحة..طلبت من مُساعدتي مرارا أن تصلحها لكن يبدو أن هناك عطب بذاكرتها"
كذا قالت المرأة و هي تحمل بين كفيها فنجانا من الشاي الساخن..لم ترمش حتى لامس بخار الشاي عينيها فأطلقت تنهيدة خافتة..
كان صديقنا المتسلل غير مستمتع بتاتا بالجلسة التي عقدتها مالكة المكتبة الشقراء،و إن لم تلح عليه للتصريح بهويته أو ما جعله يندس للمكان باستخدام خلل بالمبنى..
رغم ضمانه الأمان للوقت الحالي و أن صيده الثمين يعتلي حجره لم يشعر بأدنى فخر من كونه مستغلا تهذيب امرأة تبدو أصغر منه سنا..بعمرها هذا، تبدل الشخصية أمرٌ يجب توقعه..
شقراء هي كما ذكرنا آنفا..تمتلك وجها يصلح للوحات المأساوية..بالعشرين تكون أو يزيد قليلا..
أما عينيها فكانتا مثل الرماد ما أن توجهها لأحد تنتابك قشعريرة غامضة..
استأنفت المرأة بعدما انتهت من ارتشاف مشروبها:
-"تبدو خائفا يا سيد..على أية حال لن أؤذيك فأنا مجرد سيدة عمياء..حياتي بين جدران هذه المكتبة و لا أنوي تغيير هذا"
طأطأ رأسه حرجا فما كان ليتوقع أنه بحضرة عمياء إذ كانت تنظر إليه بثبات,أو هكذا تخيل أثر هاجسه بأن يتم الغدر به من حيث لا يحتسب..
و بعد صمت طال قرر المتسلل إبراز صوته المتوتر:
-"شكرا على الشاي و أعتذر إن سببت لكي الازعاج..سأرحل ما إن أعثر على مكان آمن"
أردفت المرأة و هي ترتمي بالكرسي إلى الأمام:
-"هل أنت هارب يا سيد؟..إن كان هذا الوضع يمكننا تدبير صفقة"
احتبست الكلمات داخله فما عاد يقدر على تحديد شعوره ناحيتها..تارة يخشاها و أخرى يشفق عليها الان يكاد يبلل سرواله مما تنطوي عليه عباراتها..أهي تعمل مع الشرطة و تتلاعب بزمام أفكاره ..هذا خاطر وارد الحدوث..
-"اذا أنت كذلك..حسنا يمكنك البقاء مقابل أن تكون قارئا لي..و ما ان تُنهي آخر كتاب سيكون لنا نقاش مهم "
هكذا وجد نفسه يقول نعم مليئة بالرهبة و الرعب..
...
-"اذا تبقت خمس كتب بالفعل"
أعلنت و هي تدلك كفيها بعصبية.. على يمينها المتسلل يغلق كتابا فرغ من قراءته للتو..
هو لا يصدق أن أشهرا مرت بتلك السرعة، لقد بح صوته كثيرا منذ عقد تلك الصفقة الغريبة،ليس و كأنه إمتلك خيارا..
مع ذلك رأى سحراً بالكتب أنساه دناءة الواقع، لقد نال مأرب الطمأنينة بفضل تلك السيدة و مكتبتها العامرة..
حتى الان لم يسئلها عن الإسم و كذا التزمت هي بمعاملته دون أسماء..أحيانا تطلبه بلقب "الزائر عبر الجدار"بغرض المزاح إلا أنه لم يستسغ تلك المزحة قط..تشعره أنه كائن أتى من المريخ..
لا يتخيل أن ما يفصله عن "النقاش للمهم" خمسة كتب..السيدة و الحق يقال نهمة لعالم الخيال لذا لن يمر الكثير قبل أن يسدل الستار على الكتاب الأخير..
بقرارة نفسه تمنى لو تماطل بأي شئ..يخشي أن تطرده دون رجعة..
تلصق شفتيها ببعضيهما بشراسة لذا بدت مقاومتها واضحة مفتعلة..
لو تدرك السحر الذي غمر عالمه بسبب عرضها  لماتت حرجا..
-"كدت أنسى..لدي ضيف الليلة,لا تظهر إلا عندما أخبرك بهذا حسنا؟"
كانت تقولها بنبرة مرتابة قليلا مما بث المخاوف بقلبه..هل ذلك الضيف سيؤثر على الإطمئنان الذي ناله مؤخرا..
إنها أول مرة تبدو بها السيدة قلقة، دائما كانت بملامح جامدة و طبع سلس لكن يفرض عليك احترامها..
دُق الباب الخارجي لتشير إليه بالاختباء و سرعان ما مثُل أمامها..أسوأ ما توقعه الدخيل..
إنه رئيس الشرطة!
-"اذا أبي كيف حالك؟"
استهلت الحوار و هي تصب الشاي للرجل البدين الذي يختال بشاربه الكثيف حيث يفتله كل ثلاث ثوان..احتلت ابتسامة ركن ثغره الأيمن ليجيب:
-"أنا بأتم صحة و الأوضاع مستقرة مؤخرا"
أهدته ابتسامة من النوع المجامل,يبدو انها لم تجد نظيرها بلغة اللسان..
أخذ الرجل يثرثر حتي جاوز الساعتين..كان الملل يعتلي قسمات وجهها النحيل الكئيب لترمق المتسلل بما خمن أنه إعتذار ضمني..أراد أن يلوح لها ب "لا بأس" لكن تراجع لتذكره أنها لن تلحظ مهما فعل..
-"دعني أعرفك على القارئ يا أبي..إنه يقرأ لي بحماس لا ينضب رغم أني أثقل عليه بعض الأحيان..اخرج لا بأس"
اقترب من الارائك بخطوات متعثرة مغمض العينين.. إن عدم رؤية نصل السيف و هو يخترقك يزيح بعض المشقة..
إنها النهاية التعيسة اذا,ستسلمه ملهمته إلى  يدي العدو بصدر رحب..
لكن لصدمته الكبرى وجد الرجل يصافحه بحرارة و يلثمه على خده..لو أنه قرر الزواج من ابنته ما عامله على  هذا النحو..
هتف الرجل و بطنه الكبير يرتج موائما انفعاله:
-"انني عاجز عن التعبير..لقد قمت بما لم أستطيعه أنا، للمرة الأولى تتحدث ابنتي عن أحد بل و تمتدحه!"

Read to me _ إقرأ ليحيث تعيش القصص. اكتشف الآن