سلامٌ أستهلُ بهِ كتاباتي أحيي بهِ روحكَ الخالدة ، شوقٌ إليكَ قد أدمى قلبي وقطعَ نياطه ، كمدٌ وكربٌ قد مزقا ما لم تمزقهُ من روحي بغيابك ، أرسلُ إليكَ أشجانًا مغلفةً بمسمى السلام .
أما بعد ..
صباح اليوم أقيمت حفلة تخرجي من الجامعة بشهادة المحاماة ، والدتي قد حضرت إضافةً إلى شقيقي ، اشتقتُ إليكَ لدرجة رؤيتي إياكَ متواجدًا بينَ الحضور واقفًا تناظرني بابتسامتكَ المرهفة كالعادة ، مَيَّزتكَ من بينِ المئاتِ أوَتعلم ؟! إلا أنني أدركتُ بعدَ أن غمرني الحبور وأخذَ حيزًا في داخلي بأنهُ لم يكن أنت .. لقد كانَ طيفًا لكَ قد نسجهُ خيالي البليد مواسيًا إيايَ لعدمِ تواجدك .هذا العام وككلِ عام .. أكتبُ لكَ رسالةً رغمَ يقيني الهائل بأنها لن تصلَ لك ، رغمَ علمي باستحالة قرائتكَ إياها . لا أعلم إن كنتَ ستفتخر بي .. لكنني قد حققتُ حلمكَ الذي أخبرتني عنهُ بدلًا من حلمي البسيط ، ولأكون أكثر دقة .. قد باتَ حلمي هوَ إسعادك وتحقيق ما تبتغي . أرغب أن أرآكَ مبتسمًا ببهجةٍ وأنتَ تشهد هذهِ اللحظة المهمة في حياتي ، هل لي أن أطلبَ منكَ أن تعود ؟ لكن إن كانَ ذلكَ طلبٌ باهض قد تظنُ ولو للحظةٍ أنني لا أستحقه .. فأنا أستطيعُ الانتظار أكثر حتى تغير رأيك .
أرغب بإنباءكَ أنني اتلهفُ لرؤيتكَ أكثر من رغبتي بالعيش ومنَ الصعبِ أن لا أفعل ، اشتقتُ إلى الوقتِ الذي كنتَ تقضيهِ دومًا برفقتي تلاعبني .. تمازحني وتسليني . رأيتُ جميعهم قد عادوا منَ الحربِ إما سالمينَ أو مقتولين ، لكنكَ لم تكن مع أيٍ منهم ، لستَ ممَن قتلوا ولا ممَن عادوا .. كنتَ من المفقودين الذين لا خبرَ قد يصلنا عنهم . لذا كانَ علينا أن نبقى معلقينَ في المنتصف هكذا .. آملينَ عودتكَ إلينا فقط ، بصيصُ الأملِ هذا هوَ كلُ ما قد نستطيع رؤيته .. وهوَ أقسى عذابٍ بالنسبةِ لي !
في كلِ صباحٍ أتفقدُ الجريدةَ عَليّ أجدُ خبرًا عنك ، ولكن خيطُ الأمل الرفيع الذي لديَّ قد شارفَ على الانقطاع يا أبي ، أدركتُ إن الضوء في آخر النفق لم يكن سوى حيلة ، أربعة عشر سنة وأنا أركضُ نيةً للوصولِ لهذا الضوء البعيد ، أركضُ رغمَ علمي إنَ لا أملَ ألتمسهُ من عودتك إنهُ فقط وهجٌ واهٍ كانَ يبقيني على قيدِ الحياة .
أرغبُ برؤيتكَ بشدة ، فقد اشتقتُ لملمسِ لحيتكَ الخشنة المزعجة وأنتَ تقبلُ خدايّ ، كنتُ دومًا أنزعجُ بسبب ذلك ولكن الآن .. يمكنكَ أن تزعجني كما شئت ، أتوقُ بأن آراكَ تحاول مجددًا أخذ آخر وألذ قطعة من البسكويت لكي تغضبني وإضافةً إلى ذلك .. يمكنكَ منعي من وضع ثلاثة ملاعق سكر في الشاي صباحًا لِذا فقط .. عد إلينا إن كنتَ على قيدِ الحياة .
جميع رسائلي السابقة كانت حولَ أخباري وأخبار والدتي وشقيقي ، أما عن هذهِ وبما أنني قررتُ أن تكونَ الأخيرة .. أرغب بأن أعاتبكَ على ما فعلت ، لِما كانَ عليكَ الذهابُ إلى الحربِ ، لماذا ؟ ألم يكن بكاءُ أمي كافيًا لإلغاء فكرتك ؟ ألم تكن دموعي التي أهدرتها وأنا أتوسلُ إليكَ بالبقاء كافيةً لتغيير رأيك ؟ أكانَ منَ السهلِ عليكَ تركنا مشيحًا نظركَ عن دموعنا وتوسلاتنا ؟ هل يهونُ عليكَ الأمر حينما نسمع أسماء الجميع معلنةً إلا إسمك ، أكانَ من الصعبِ عليكَ تأجيلَ عودتك إلى الحرب والبقاء معنا يومان إضافيان . لم تعتد أن تكون قاسيًا يومًا ، إذاً لِما قد تجاهلتَ نداءاتنا المتضرعة وأكملتَ طريقكَ ناويًا المغادرة ، منذُ ذلكَ الحين وحتى الآن وأنا أرسلُ الرسائلَ المتوسلة كل عام ولكن .. لم يصلني ولا ردٌ واحدٌ منك .
أتتذكرُ يا أبي عناقنا الأخير ؟ حينما أبت يدي أن تتركَ يدك ، رحلتَ كما ترحل الطائرة إلى بلادِ الأحلام .. ترحل ولن تعود ، رحلتَ دون أن تخبرني ماذا أفعل حينما أرغب في البكاء على كتفك ، رحلتَ كما يرحل القمر صباحًا عن كاتبٍ يهوى الليل ، لقد تركتني .. لستُ وحيدة ولكن خائفة !
وختامًا ببعثرةِ الكلماتِ المليئة بالاشتياق ، أُحيي ذكراكَ الآن وبكلِ آن ، رسالةٌ إلى جسدكَ المفقود وروحكَ الحاضرةُ دومًا في الأذهان ، ها نحنُ نحاولُ المضي منكَ من دونك ، آخرُ أملٍ بعودتكَ قد بَادَ لذا ما لنا سوى المضي قدمًا يا أبي ، إلى اللقاء .. نلتقي في العالمِ الآخر .
أنت تقرأ
إليكَ يا من شيعتَ فؤادي
Non-Fictionرسالةٌ خطتها يدٌ مشتاقةٌ فَجِعة ، عبرت عما بداخلِ قلبِ صاحبها من كربٍ وأسى .. من حزنٍ ولوعة ، دونت مشاعر السنين وخيبة الإنتظار الذي هُدِرَ بلا معنى ، أباحت عن مدى البؤس الذي أضطرت لعيشيهِ إزاء كلِ ما حدث .