الفصل الثاني

10 1 0
                                    

استيقظ (محسن) على ضوضاء قوية جدا، ولكنها هذه المرة تأتي من الشارع.
اعتدل في جلسته على الفراش، ونظر لجسده بذهول، لقد اختفت كل جروحه، ولا توجد نقطة دم واحدة، كما أن المنزل يبدو هادئا جدا.
نهض من فراشه ونظر من نافذة الغرفة، وجد عدد من العمال ومعهم معدات الهدم، وقد بدأت المعدات في العمل.
صاح بصوت عالٍ كي يتوقفوا عن هدم البناية، ولكن هيهات كان صوت المعدات أعلى بكثير.
نزل إلى الشارع مهرولا، وجد رئيس العمال ينظم العمل، ذهب إليه وهو يصيح في وجهه:
-ماذا تفعلون؟ كبف تقومون بهدم المبنى ونحن فيه؟
ولكن لم يسمعه الرجل وبدا كأنه لا يراه حتى، ظل يشير إليه بيديه ويصيح بلا أمل، ونظر حوله وجد العديد من العمال، ركض ناحيتهم وحاول هزهم، ولكن لم يسمعه أحد وبدا كأن الجميع لا يراه، شعر بالضياع واليأس، ورجع لرئيس العمال ثانية، الذي يدعوه العمال بالرئيس (بدوي) ووجد أن رجلا كبيرا في السن اقترب منه بهدوء، وهو يقول:
-أخيرًا سنتخلص من تلك العمارة الملعونة.
نظر إليه (بدوي) بجانب عينه، وهو يقول بلا مبالاة:
-صاحب البناية قرر أن يبيعها لشخص آخر، وهذا الأخير أراد تحويلها لبرج حديث.
هز الرجل المسن رأسه، وقال:
-سوف أقص عليك قصة تلك البناية.
هز (بدوي) رأسه موافقا، وهو ينادي على أحد العمال ويطلب كوبا من الشاي، وسأل الرجل لو يشرب معه فوافق الأخير، وأحضر له مقعدا وجلس بجواره، أسند الرجل المسن ظهر على المقعد، وهو يرجع بذاكرته للوراء ويتنهد بقوة:
-لقد بدأت القصة منذ عشرين عاما، كان هناك رجل مسن يسكن في الطابق الثاني، وبجواره تعيش أسرة طيبة مكونة من أربع أفراد، كانت علاقتهم طيبة وهادئة مع الرجل العجوز..
ثم أخذ نفسا عميقا، وقال بتأثر شديد:
- لقد تركه أولاده الأشقياء وحيدا، حتى مات وحده، ويُقال أن روحه كانت ساخطة جدا، وفي نفس اليوم الذى توفي فيه، اشتعلت النيران في منزل جيرانه، كانت الساعة تقريبا الحادية عشر، وكلما حاول أحد الجيران في الشارع إنقاذهم، أو المطافي تقترب من المبنى، كان المبنى يقذفهم بعيدا، استمر الحريق إلى بعد الثانية بعد منتصف الليل، حتى مات الجميع، وخمدت النيران فجأة بدون تدخل من أحد.

كان (بدوي) قد بدأ ينجذب للأحداث كأنه يقص عليه فيلما، فقال يحثه على إكمال قصته:
-وماذا بعد؟ مالذي حدث؟ هل تمكن أحد من السكن في هذا المبنى بعد ذلك؟
كان الشاي قد وصل، فأخذ الرجل الكوب الخاص به وارتشف رشفة من الشاي بصوت مزعج، ثم وضع الكوب في الصينية، وكأنه هو الآخر مستمتع برواية القصة المخيفة، وقال وهو يضيق عينيه وينظر إلى (بدوي):
-لم يجرؤ أحد بالطبع على الدخول إلى هذا المبنى، وانتشرت القصص والروايات المرعبة عنه، وكان الجميع يبعتد عن المبنى خاصة في المساء، والبعض قال أنه يستمع إلى أصوات صرخات عالية من الساعة الحادية عشر مساءا حتى بعد الثانية صباحا..
وارتشف رشفة كبيرة من الشاي، وقال وعيناه تلمعان:
-وبعد عشر سنوات، أتى شاب من خارج المنطقة، بل من خارج القاهرة كلها، ويبحث عن منزل قريب من عمله، والسمسار أخبره عن ذلك المنزل، وأخبره أن الإيجار زهيد جدا لأن المبنى قديم، وصدقه الشاب المسكين.
ارتشف رشفة أخرى أنهى بها ما تبقى من الكوب، وزفر بحرارة:
-لم يصدق الشاب طبعا الأقاويل التي أخبره بها الجيران، وظن أنها مجرد قصص يرويها السكان كنوع من أنواع الإثارة، وكلها أيام قليلة وأصبح يستمع إلى تلك الأصوات والصرخات، ويستيقظ صباحا وكأن شيئا لم يكن، حتى أنه أخبر البعض أنه قد خطب فتاة اسمها (نهى) وهي ابنة الرجل (أشرف) الذي كان يسكن في الطابق الثاني من عشر سنوات، وسط ذهول الجميع بالطبع، فلم يكن يسكن في ذلك المبنى وقتها غير ذلك الشاب المسكين.
صمت قليلا يلتقط أنفاسه، و(بدوي) ينظر إليه بفضول جم، ولما صمت الرجل، سأل (بدوي) في لهفة:
-وماذا حدث لذلك الشاب؟
أشاح الرجل بنظره بعيدا، ثم رجع ينظر إلى المبنى الذي تهدم جزء كبير منه، وأشار بأصابع مرتعشة إليه:
-في يوم ما، طلب ذلك الشاب زميله بالعمل، وأخبره أنه يود الخروج من المنزل والبحث عن منزل آخر، واتفقا أنهم سيذهبان سويا لرؤية المنزل الجديد، ولكن المنزل لم يسمح للشاب بالخروج منه، وطلب زميله وهو يصرخ، بعدها وصل زميله واضطر لكسر الباب، ودخل مع مجموعة من الجيران، ولكنهم وجدوا ذلك الشاب غارقا في دماؤه، وجسده ممزق بسكين، لم يعلم أحد حتى هذه اللحظة، من فعل به ذلك، أم أنه انتحر وتخلص من حياته بعدما سيطرت عليه الهلاوس.
ثم مط شفتيه وهو يقول بحسرة:
-ليتك استمعت إلى تحذيراتنا يا (محسن).
ثم استطرد:
-ولكن البعض يقول أن روحه ما زالت ضائعة، ولا يصدق أنه قد مات حتى هذه اللحظة، ويحيا كل يوم بنفس التفاصيل.

                                    ☆☆☆

انتفض (محسن) بقوة عند هذه النقطة، لقد توفى في ذلك المنزل اللعين منذ عشر سنوات..
ثم نظر إلى الرجل المسن، وعقد حاجبيه في ذهول، لقد اتضحت ملامحه أخيرًا.
سأله (بدوي) في مزيج من الذهول والخوف:
-بالطبع لم يسكن أحد ذلك المبنى من وقتها.. أليس كذلك؟
ظهرت ابتسامة غريبة على شفتي الرجل، وهو ينظر إلى (محسن) وكأنه يراه:
-لأ بالطبع، لم يجرؤ أحد على دخول المبنى من بعدها..
وصمت قليلا ثم استطرد بصوت عميق:
-عليك أن تخاف يا بني.. الخوف يحميك أحيانًا.
واتسعت ابتسامته الشيطانية، وهو يمد يده يصافح (بدوي)، ويقول:
-اسمي (يس)، ويدعوني الناس بالعم (يس).

                                      ☆☆☆

بعد ثلاث سنوات، تم بناء البرج السكني المكون من عشرين طابق، وبدأت الأسر تسكن في البرج الجديد..
كانت الزوجة والزوج وابنهما الصغير (لؤي) ذو الأربع سنوات، قد دخلا إلى المنزل منذ ساعات.. بعدما نقلوا كل لوازمهم الأيام الماضية، وكانت الزوجة منهمكة في إعداد طعام الغداء، عندما رن جرس الباب، واتجه زوجها ليفتح الباب.
فتح الباب ولكنه لم يجد أحدا، ونظر في الممر الذي يفصل بين الشقق، ونظر في السلم الذي يؤدي للطابق الثاني، والسلم الذي يؤدي للطابق الرابع، ولكنه لم يجد أي شخص، ضرب كفيه ببعضهما تعجبا، وسألته زوجته وهو يدلف إلى المنزل:
-من الطارق؟
نظر إليها، وهو يمط شفتيه في ضيق:
-يبدو أن بعض الأطفال المزعجين قد ضربوا الجرس ثم هربوا.
التفت الصبي لشقيقته في ذهول، وهما لا يزالان واقفين عند الباب:
-أنه لا يرانا.
التفت (لؤي) ووالده يغلق باب المنزل، وقال ببراءة الأطفال:
-أبي يوجد شخصان خارج الباب.
نظر والده ثانية ولم يجد أحدا، فأغلق الباب وهو يقول لابنه:
-لا يوجد يا بني.
قالت الفتاة الواقفة على الباب بشرود:
-الطفل رآنا ولكن يبدو أن والده لا يرحب بنا، هيا بنا يا (سيف) فلننزل، والدانا ينتظران.
أمسك الصبي يد شقيقته وهو يقول:
-حسنا يا (نهى).

انتهت.. ولكن القصة ما تزال مستمرة.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 26, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

أسمعهم ليلاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن