هل يمكن أنَّ قانون الحياة لا تحصل على ماتريد؟ أخذ أنس يفكر، ويحاور نفسه بتساؤلات كثيرة اجتماعية:
⁃ لماذا المجتمع لا يدعم الطموح، لا يدعم الفنان المبتدئ، ويستخفوا به، لا يدعم الكاتب صغير العمر وليس له متابعون كثيرون في مواقع التواصل الاجتماعي؟ لماذا يخافون النساء القويات ذوات العقول المنفتحة، يخافون التي تطالب بحريتها؟ مجتمع مقعد فكرياً، يعيب من تعمل بعرق جبينها، يعيب من ترتدي ما يحلو لها، ويتسترون بالدين والعادات، لماذا لا ندعم الشباب بمشاريعهم، حتى وإن كانت صغيرةً ونسبة نجاحها ضئيلة؟ لماذا نحارب القارئ، والشاعر، والكاتب، وصاحب المحتوى الثقافي؟ لماذا ندعم التفاهة والأمور التي لا تفيد المجتمع؟ لما لا نرتقي بشعوب أخرى؟
في هذا الوقت وهو مستلقٍ على سريره الحديدي الذي تفترشه قطعة من الإسفنج، المغطاة بقماش جيد بلون رصاصي، غطى وجهه بلحافٍ كان يمتلكه منذ ٤ سنوات، لكنه يفي بالغرض. غط بالنوم ليصحو في الصباح، ليتوجه إلى مكتبته التي كانت أشبه بعيادة دكتور نفسي، كل من يأتي لها مهموم، ويحتاج من يسمعه ويطبطب عليه ببعض الكلمات، ولديه مشاكل من شتى الأنواع. نهض وهو مبتسم، هذا الأمر لم يحصل منذ سنين عدة، أخذ كوب الماء الذي كان قريباً منه دائما، شربه وراح يغسل وجهه ويفرش أسنانه، بعدها بدأ باختيار الملابس التي سوف يرتاح فيها؛ لأنه يقضي معظم يومه في المكتبة، وضروري تكون متناسقة؛ لتعجب البنت التي ستقابله اليوم في المكتبة.
كان وسيماً بعض الشيء، ذو بشرة خفيفة السمار، حنطية، وعيون ليستا بكبيرتين، لكنهما جذابيتين، وحاجب مرسوم خلقياً، وشارب رجولي جميل، متناسق مع لحيته الخفيفة وشعره الخفيف، لكنه يرتدي القبعة دائماً، وبطول متناسق وبنية جيدة؛ ليكون محل إعجاب لأغلب البنات.
ارتدى البنطال الرصاصي، والبلوز الأسود، والقبعة السوداء، ولمَّع حذائه، وخرج متجهاً إلى الشارع العام؛ ليستقل حافلة المواصلات العامة. اخذ يستنشق الهواء الصباحي؛ فهو يحب أن يعبئ جسمه بهواء الصباح النقي، وينظر للطلاب ويتحسر. وهو يمشي صادف بائعاً متجولاً يبيع الكيك المحلى، أخذ منه اثنتين، وانتظر على رأس الشارع أن تصل الحافلة، وهو يفكر في تلك الفتاة التي تعرف عليها في مواقع التواصل الاجتماعي. وصلت الحافلة، ركب وأدّى السلام على الركاب، وجلس في آخر الحافلة، أخرج من جيبه نقوداً ليعطي الأُجرة، فدفعها لمن يجلس أمامه، وبدوره يمررها لحين وصولها للسائق. فتح نقاله المحمول ليتصل بصديقه المقرب؛ ليعلمه أنه متجهٌ للمكتبة، وأن يوقظه من نومه ليذهب لعمله، رن الهاتف متصلاً، فلا توجد إجابة، أغلق الهاتف. الساعه تكاد تصل التاسعة، فكر في أنَّ صديقة قد خرج مبكراً وهو في العمل، ولم يسمع الهاتف. نظر لأحد الركاب، كان محط أنظار الجميع؛ لأنه يحدق بفتاة تبدو ذاهبة للمدرسة، كانت جميلة تجلس بمفردها، مفعمة بالحيوية، كأنها تتأمل مستقبلها، أو بصديقاتها وبماذا سوف يتشاورون اليوم عند جرس الفرصة، الشاب كان يأكلها بنظراته الجنسية القذرة، إلى أن وصلت الحافلة للمكان القريب من مكتبته التي تقع في مركز المدينة، أخبر السائق بنزوله فجهز نفسه للنزول، وقفت الحافلة، نهض وأقبل أن ينزل، قال للشاب: تخيلها اختكَ أو إحدى قريباتكَ..
ونزل، وصل لمكتبته، أخذ المفتاح، فتح الباب لتخرج رائحة الكتب التي تعطيه السعادة، أخرج الرفوف المتحركة إلى باب المكتبة، وفتح أضواء المكان، أخذ يتمشى فيه ليتأكد من أن كل شيء تمام، فوضع كيس الكيك المحلى على الكرسي، وذهب ليشتري العصير المعتاد. رجع ليرى صديقة عادل أمام المكتبة
أنس: صباح الخير، اتصلتُ عليكَ ولم تجب على اتصالي، أين كنت؟
عادل: صباح الروتين، ذهبتُ مبكراً كي لا أسمع الكلام المسموم من المدير، أنت اليوم نشيط ومزاجك جيد.
أنس: لا شيء، إن كان للسعادة رأي آخر في رفقتنا، فلنتفاءل ونسعد أنفسنا.
عادل: دعني أذهب حتى لا أتأخر، أتيتُ لأنني كنتُ قريباً من هنا، ولا يوجد لدي رصيد لأتصل بكَ، بعد انتهاء العمل أرسل لكَ على الفيس بوك مع السلامة، لكنكَ لستَ خالياً اليوم!
أنس: اذهب كي لا يسمعونك كلاماً جميلاً!
ضحك أنس على ما قاله عادل؛ لأنه يحبه حباً جماً؛ كونه الصديق الوحيد المقرب، ذو ال٢٤ عام، صاحب الضحكة الدائمة، فإنه لايبالي لمستقبله، ولا يفكر ولا يهتم، أشبه بالرجل الآلي. دخل لمكتبته، أخذ قنينة العطر، أخذ يرش في سماء المكتبة عطره المفضل، ووضع الطاولة أمام الكرسي، وأخذ الكيك وبدأ يفطر خلف مكتبه. بعدما أنهى فطوره، أخرج الهاتف المحمول، دخل على يوتيوب ليشغل فيروز، عظيمة الصباح، ترك الهاتف على المكتب بصوت عالٍ لفيروز، واخذ المكنسة لينظف الأرض؛ فهو يستمتع بذلك.كلما أحب الشخص عمله زادت طاقته، ولن يتعاجز بفعل شيء بهذه الأوقات، الساعة ال١٠ تقريباً، وهو يفكر في اللقاء الذي ينتظره منذ أيام، لقاء سوف يعرف حقيقة نفسه من خلاله؛ لأنها كانت مختلفة عن جميع الفتيات اللاتي تعرف عليهن سابقاً، والتي برفقته حالياً، عيناها واسعتان كالجنائن بلونهن الأخضر الفاتح، خديها أجمل درجات اللون الوردي، كلون شفتيها الطاغيتين، كأنهما عصافير، والأنف يحرسهما بشموخ وعفة، حاجباها كجناحي النسر مهيبان، شعرها كالأمان، مزروع من أعلى رأسها لما بعد ركبتيها، سارح بلونه البني الفاتح، جملية لطيفة، عند رؤيتها تحس بترافتها وبدفء صوتها، عند الكلام تحتاج الرزانة التامة؛ كي لا تغفو أمامها.
بعدما انتهى من تنظيف المكتبة، أخذ يتفحص الكتب والروايات، اخذ من على الرف "سيمادرا" للكاتب أحمد دهر؛ لأنه أحب هذه الرواية، ويعشق أُسلوب السرد فيها، ومعجب بشخصية الكاتب، فجلب كرسيه الأبيض الذي يعتبر أنتيكة؛ كونه نادر، وبدأ يقرأ.
وصلت جميلة البصرة كما يسميها، لكن اسمها (آيلا)، مبتسمة قبل أن تنزل من السيارة التي تقودها أمها، نزلتْ آيلا كفنانات هوليوود، ساحرة، أهل المحلات المجاورة انصدموا بجمالها، وكذلك لأنها سافرة، وشعرها الخلاب يتطاير، وبفستان رائع؛ لأنهم يرغبون بمعاشرة هكذا نساء، لكنهم لا يرغبون بالزواج منهن. دخلتْ مبتسمة إلى المكتبة، فطالتْ النظرات ما قبل الكلام، لا يعرفان لماذا، ولكنهما سعداء، رحبتْ به فرد عليها كلاماً معسولاً، في هذا الوقت، كأن إله الحب جالس بينهما، كأن الكون أراد أن يجمعهما، الهدوء عم الشارع، والمكان الهواء ازدادا لطفاً، العطر المعتاد الذي رشه أصبح رومانسياً، ودام أكثر من المعتاد، تحول كل شيء جميل. كيف لأهل العمائم أن يصوروا الحب لنا بخطيئة وجريمة، والله سوف يعاقب العشاق؟ وأنا أحس في هذه الأثناء إنَّ الله سخر كل شيء؛ ليجعل الأمر جميلاً بين أنس وآيلا. قدم لها كرسي قائلاً: هل تريد جميلة البصرة أن تجلس؟ تفضلي.
مع ابتسامة، وخجل، وخوف، ورجفة في عينيه.
آيلا : لا، فأنا أُريد أن أتفحص كل كتاب هنا، لا تعرف مدى سعادتي بوجودي بين هذه الكتب، وطبعاً بلقاء شخص محترم ومهذب ولطيف مثلك.
أخذتْ تدور في المكتبة بين الرفوف والروايات، وكأنها أحد أبطال الروايات الكلاسيكية العالمية.
أنس: شكراً، أنا كذلك سعيد بوجودكِ اليوم، زادني الشرف، وزارني النور بمجيئكِ.
آيلا : شكراً على كلامكَ الجميل.
أنس: أتريدين أن أُساعدكِ في اختيار ومعرفة الكتب؟ أم أنكِ تريدين أن تستكشفي بنفسك؟
آيلا: أكيد أحتاجكَ؛ فأنا لستُ خبيرةً بهذا المجال، لكنني أعشقه، وطبعاً أنتَ لديكَ خبرةً أكثر؛ كونكَ صاحب مكتبة.
أخذا يفرشان المكان بكلام لطيف حول الكتب والروايات، وأخذ يشرح لها عن كل كتاب قد قرأه سابقاً، والكتب التي لديه نبذة عنها، كان لديه الفضول القاتل، يعرف عنها الكثير، عن حياتها، عن طبعها، عن كل شيء حولها. كان معتاداً أن يساعد الآخرين بنصائح وكلام محفز، ويستمع للآخرين ولمشاكلهم النفسية والاجتماعية، لكنه أحس بأنه يحتاج أن يشكو لها همه الذي يجول في صدره، وإنه لم يشكُه لأحد مسبقاً، ولا حتى لصديقه عادل. في بعض الأحيان، العيون تكون كالدواء، نقاؤها أضعفه، أراد أن يطلب منها أن تستمع له ولهمومه، وإنها سوف تكون قد ساعدته، وهو يعرف جيداً ما الحل لمشاكله، لكنه أراد أن يحكي لها عن ما يجول في عقله. أحس بأنَّ وجودها في حياته حلٌّ لأزماته النفسية، براءتها طغتْ عليه، وجعلته طفلاً صغيراً أمامها، يحتاج أن تملأ عقله وقلبه، بما تمتلك من عفوية وطيبة وطاقة، رغم معرفته بها، ومن عينيها أنها متعبةٌ من الداخل أيضاً، ومحطمة بكثير من الجوانب، لكنها تمتلك طاقة الصمود.لكنه كان من معجبيها على برامج التواصل الاجتماعي، فلم ترِد أن يعرف الجميع عن حياتها، لكنها بدأتْ تقريباً تتوارد بشعور الرغبة بالكلام، احتاجتْ أن تفضفض له، نظراته الساحرة لا تقاوم، تضع في قلوب الناس الطمأنينة والأمان؛ كونه محترم ويعرف كيف يتصرف بكل الظروف والأحداث، ولا يبين ما في داخله إلَّا إذا كان بإرادته. اختارتْ بعض الكتب، وجلستْ تنتظر والدتها لتقلها للمنزل. اخذ الصمت بينهما يجول متمتعاً برفقة العصافير الخجولة، نظراتهما لبعض فضحتْ كثيراً من الأمور بدقائق قليلة. جلسا متباعدين، لكن نظارتهما كادت تحتضن بعضهما..
آيلا: هل يمكن لشاب بعمره، في هذه الأيام، بمجتمع خطير، أن يكون بهذا اللطف والتهذيب والاحترام؟
أنس: لماذا هي؟ مرّتْ الكثيرات سابقاً، الجميلة والمثقفة والذكية والحنونة، ولكل فتاة صفة جيدة، كما كنتُ أود أن أشارك حياتي مع واحدة من هذه الشخصيات.
آيلا: الله العالم، فأنا وفوضتُ أمري إلى الله في هذه الأمور، لو خليت قلبت.
أنس: اعتقد أنَّ كل المواصفات التي أرغب بها تجمعتْ، لهذا السبب هي التي اسرتني.
أخذا يحدقان خلسةً في بعض، أنس يزعم أنه منشغلٌ بترتيب فواصل الكتب التي تعلو مكتبه، وهي جالسة تختلس النظر بين اللحظة والأخرى، وكانت تنظر داخل كتاب من المجموعة التي اختارتها. قطع صمتهما صوت الهاتف، عرفتْ أنَّ أُمها قد وصلتْ، نهضتْ وكأنها ملاك، بفستانها الجذاب بلونه الأسود، تكاد تصبح أجمل من القمر في ليلة البدر. ودّعته وهي مبتسمة
أيلا: شكراً لكل شيء، سعادتي لا توصف، حقيقةً إنَّك إنسان رائع، وهذه المكتبة عشقتها، وسوف أزورها على طول، وأنصح الكل بزيارتها.
أنس: آنستِ ونورتِ جميلتي، هذه مكتبتكِ، متى شئتِ يا أهلاً وسهلاً، لنا الشرف.. قبل أن أنسى، هذا كرت المكتبة، فيه الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي إن احتجتِ لشيء.
والآن، لن يمنعني شيء من الموت، لم يبقَ في قلبي شيء،
كل ما بقي من بعد هذه اللحظات هو مجرد وقتٍ يمضي
دون لذة. اللذة في الحياة هي الشهيق بقربكِ، هي التماس وجنتيكِ، هي مغازلة أصابعي لشعركِ، هي عطركِ، هي صوتكِ، هي نظرة من عينيك، ولينتهي العالم من غير أسف.
أنت تقرأ
نساء ورجل مختل
Чиклитبقلم . أرشد حسين #نساء_ورجل_مختل راح أنس يجول بين هذه وذاك ويعجب ويحب ويخذل ويبحر في سفينته ويقرأ اكثر فأكثر ويتعمق في ما يقرأ ولازال هوس التعلق وحب الموعد الاول يجول معه اما عن آيلا ف هي أيضا لها نصيب في هذه الدنيا مع أنس ومع غيره ولازالت غير مستق...