مأساة تحتضر

93 1 0
                                    

أنني أتلاشى كظل ستغيب شمسه ، أجول في ذاكرتي ممسكاً قلمي باحثًا في داخل أعماقي عن ما سأكتبه في طيات مذكرات معاناتي و أوجاعي ، فأنا أشعر بالعزلة تحيط بي لقد هربت نحو قلمي و أوراقي لأكتب كل ما مررت به وما لاقيته من الشقاء و مناكفة العداء .
لا صوت هنا يُرجى أن يسمع سوى صدى كلماتي التي قد استحالت إلى حبراً جف على الورق ، الكتابة المهرب الجيد بدلاً من الصراخ .
هذه الكلمات التي تشبه قصيدة رثاء لرجلاً يحتضر وينشدها و متغنياً بها وهو منهمك في حفر قبره ، وقد اضناه حمل المعول ويكاد أن يلقيه لكنه لا يود أن يستسلم لعمله الاخير .
لم أهرب طوعاً الى القلم فأمر الصراخ قد سلب مني ، أنني محطم مسلوب الارادة ، كشجرة تحاصرها ألهبة النار و ترغب بالهروب و الركض بعيداً ، لكن جذورها تأبى و ترفض ذلك ، ستحترق دون ان تبدي أي جانب من المقاومة ، او كغريق يتشبت في قشه تطفو على سطح البحر الهائج انك ترغب بالنجاة ولكن الأقدار تأبى،

سوف أبدا من المأساة التي بدأ منها كل شيء بالرغم أنني موقن بأن المأساة تبدأ عندما تولد بالمكان الخطأ، فقد قادني الفقر بأن أكون عامل يعيش في ملجاء كبير، خالي من كل شيء إلا الأعمدة التي أصبحت متكأ للمبنى وعشرات الفقراء، الذي ارهقوا بهمومهم هذه الأعمدة، فقد كنا مجموعة من العمال القادمين من القرى الفقيرة ولم يكن يسمح لنا بالمجيء للمدينة إلا لنكون تحت وطأة سكانها، فعندما تطئ أرض المدينة تُسلب منك كافة الحقوق، وتنزع عنك قيمتك و مبادئك، فكل ما تجلبه معك من مزايا سوف ينقلب عليك، فصغر عمرك يعني أنك مهيأ بأن تعمل أكثر، وجمال النساء يعني بأن هناك حانات وجدت ظالتها، وقد كنا نعيش جميعنا عندما نفرغ من أعمالنا تحت سقف واحد،

وقد أطلقنا على الملجأ اسم الثكنة، فقد كان لنا درعًا يقينا من البرد والرياح، وبه استرحنا من أهل المدينة حينما يسكرون ويعربدون فهم لا يظلون مكان متعتهم، ويأتون للثكنة ولا أحد منا يجرؤ على منعهم حتى وأن كانوا في غاية السكر ولا يدركون مايفعلون، فنحن وهم لم نكُن بنفس الطبقة حتى وأن حكت الأساطير بأن من نسلًا واحد، فكيف يكون الفقراء أخوه لمثلا هولاء؟ فدمنا في شرعهم مباح، وما خلقنا إلا لمتعهم ولنجعل حياتهم أكثر متعة.
لذلك كنا نغلق باب الثكنة بكل مايمكن من أخشاب و أثاث قديم ويصبح من الصعب على السكارى اجتيازه، وهذا لا يحدث دائمًا ففي الكثير من المرات يسقط الخشب ومع سقوطه يسقط كل شيء، فتجدهم يسيرون وينتقون الفتيات من بيننا و يقودونهم لخارج الثكنة لكن أصوات صراخهم الممزوجه بصوت ضحكات السكارى تحملها الرياح التي تدخل الثكنة مع النوافذ والأبواب، ولا تنتهي هذه المأساة إلا مع اقتراب شروق الشمس، فيعود السكارى إلى منازلهم المترفة بينما نخرج لنحمل الفتيات إلى داخل الثكنة فهم لا يستطعن السير من هول التعذيب.
على الرغم من المعاناة التي تكتنفنا الإ أننا سعينا في الملجأ بأن نُشكل حياتنا الخاصة، بأن نخلق من الموت ميلاد، فقد بدأ البعض ببدأ تجارته من خلال بسطة وبيع فيها مايحتاجه سكان الملجأ كامواس الحلاقة والقمصان المستعملة التي قد يكون ماتوا أصحابها فقد كنا نتقاتلزفيما ، وقد لاقت فكرة هذه البسطات رواجًا.. وأصبحت فكرة البسطات تزداد وتصبح أكثر ابتكارًا وتخصصًا، فهناك من شاهد رواج امواس الحلاقة، وبدأ بفكرة أن يكون هو من يحلقها مقابل مشاركتها بالطعام، فلم يكن المال الهدف الوحيد الذي يعملون لأجله، أن الخدمات المقدمة كان يكفي أن تحصل عليها مقبال رغيف من الخبز، بينما كانت البسطات التي تبيع السلع أكثر اهتمامًا بالحصول على المال، وقد بدأ لي الأمر لي مفهومًا. والأمر لم يخلوا من الأفكار الغريبة فقد وجدت كافة البسطات التي تقدم الاحتياجات الأساسية كالطعام والملابس، وقد شحت الأفكار كصحراء لم تمرها الأمطار منُذ مئة عام، وبدأت الأفكار تكرر نفسها مما خلق نوع من التنافس و العداوة التي لا تنتهي، واخرون قادتهم أفكارهم إلى الهروب من فوضى التقليد والاستنساخ إلى أفكار أكثر حداثة وغرابة، أذكر بأن أحدهم قد بدأ مشروعه بفتح محل للمساج في وسط الملجأ وقد اصبح أضحوكة، ولم يستغرق الأمر سوى يومين ليدرك الحماقة التي ارتكبها، أن قراره هذا لم يكن ارتجاليًا فبلا شك أنه قد شاهد أن هذا النوع من المحلات يلقى رواجًا بين سكان المدينة، فظن الفكرة سوف تنجح أينما تطبق، أنك لا تحتاج للكثير من التفكير لتكتشف أن لكل مكان و زمان فكره الخاص الذي لا يمكن أن يطبق في غيرها، أن أكثر ما أحبه أهل الملجأ في تلك الأسواق أنها تمنحهم شعور المجتمع وأننا ضمن الحياة وبين المأساة سننجو، لقد حاولنا تقليد نمط أهل المدينة بحذافيره، أننا في داخلنا نكن لهم الكُره ولكننا دون أن نشعر نقتدي بهم، لقد جعلت تلك الأسواق بعض أهل الثكنة أعلى من البعض ولهم تعامل خاص، وقد وظف بعضهم من أهل الثكنة في خدمتهم و الاهتمام بشؤونهم، وكان الأمر غريبًا نوعًا ما فحيث أنهم ما أن يخرجوا جميعًا إلى خدمة أهل المدينة تجد التاجر وخادمه يعملان سويًا في خدمة سيدهم، أن ذلك السيد لا يعرف ما يدور في الثكنة وبأن الذي يخدمه هو تاجر في مكان ما، وقد كان تاجر الثكنة ما أن يعود إلى الثكنة حتى يقلد كل التعالي الذي كان يقوم به سيده، دون أن يخجل بل أن لا أحد كان يفكر في الأمر بكونه يمتلك مزيج من حياة الذُل والطيغيان.
كانت أحد الفتيات تدعى ماريا، قد حملت اثناء وجودها في الثكنة، وقد حاربت لأجلها كل الأفوة التي طالبتها بأسقاطها فلا الوقت ولا الظروف مهيأة لأن تولد، وأيضًا لما سيشكله من خطر، لقد كانت ماريا في سن السادسة عشر، لذلك حينها قالوا كبار الثكنة بأنها لاتعي ماتفعل، لذا يجب أجبارها على الأجهاض، كانت تصرخ كلما شاهدتهم مُجتمعين وهم يتهامسون فيما بينهم، وما أن تصرخ حتى يفرقهم صُراخها.. حتى أن أحدهم صرخ فيها... حينما تأتين به سيكون بعد أيام أكبر منك،

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Dec 11, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

على قيد الوفاةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن