الفصل الأول

339 57 62
                                    

أيام الربيع تزين جوانب المدينة ؛ الحدائق خضراء مزهرة ، والسماء صافية مشمسة ، الأجواء الدافئة تعانق الروح وتتغلغل في ثنايا القلب مع النسيم العابر الذي يحمل ذرات الرحيق وشيئاً من عطر الزهور في الأجواء .
وفي أحد أبنية تلك المدينة الكبيرة ؛ داخل قاعة واسعة بيضاء الجدران هادئة الجوانب عدا من صوت الخطوات المتزاحمة في المكان برقي
على الجدران البيضاء علقت مجموعة من اللوحات الفنية المرسومة بإتقان وعرضت جميعاً امام الحاضرين من ابناء الطبقة المخملية والمهتمين بالفنون التشكيلية .

ومن بين اولائك الحاضرين كان ذلك الرجل الثلاثيني يتنقل بملل بجوار والدته التي تخطت الخمسينات من عمرها
يرخي يديه في جيب بذلته الرمادية بسكون ؛ تحفه هالة من العزة وهو يسير بشموخ رغم برود ملامحه التي تبدي انعدام اهتمامه في هذا المكان .

اشارت والدته الى احد اللوحات تبدي اعجابها : انها جميلة وذات ألوان تضخ بالحياة ؛ ألا تعتقد انها ستكون مناسبة في غرفة الطعام بمنزلنا ؟

خص تلك اللوحة بنظرة شاملة قبل ان يعلق : الكثير من الألوان المشرقة بشكل مبالغ فيه ، اعتقد ان هذه اللوحة مثيلة لغيرها من اللوحات في هذا المعرض ؛ تعكس احلاماً وردية لا وجود لها وتصف مدى سطحية راسمها !

قطبت حاجبيها باستنكار وهي تجيبه : ما الذي تتحدث عنه ؛ كل اللوحات المعروضة جميلة ، ان كان احدهم يتصف بالسطحية هنا فهو انت بنظرتك الكئيبة لهذا الفن !

نظر اليها بزاوية طرفه ممتعضاً : ان كنت تعتقدين انني املك نظرة سطحية للفنون فلماذا ارغتمني منذ البداية على الحضور لهذا المكان الممل ، انتِ تضيعيين وقتي الثمين بأمور لا فائدة منها !!

لوت والدته شفتيها بغيظ قبل ان تلين ملامحها وهي تنظر عميقاً في اللوحة القابعة امامها : اريد لك ان ترى الحياة من زاوية مختلفة ، انت تمضي بطريق بائس متنزهاً عن كل ملذات الحياة وذلك لا يروق لي ، اريد لابني الوحيد ان يبدأ حياته من جديد فقد سئمت تلك الوحدة التي تتشبث بعينيك .

لم يجبها بينما ذهب عقله بعيداً الى غيابات ذلك الشعور الذي يسكن خلايا نبضه ويحرمه العيش منذ سنوات
زاوية مختلفة للحياة .. اي زاوية تلك التي تريد منه والدته ان يبصرها ، ألم يرى ما يكفيه منها ؟
هو بعكس والديه راضٍ عن حياته تماماً ، راضٍ بما هو عليه الان ، تقبل خسارته واختار طريقه الذي لا ينوي الرجوع عنه ..

بينما كان شارد الذهن مفكراً ابتعدت عنه والدته لتنشغل مع احدى رفيقاتها اللاتي يشاركنها ذات الهوايات الغريبة بنظره
هو على خلاف والدته لا يصدق ان هذه اللوحات قد تكون قادرة على التغيير في منزلهم العتيق وجدرانه الكئيبة
لا شيء من شأنه تغيير ما خطه القدر في حياتهم .

" وَهَج " حيث تعيش القصص. اكتشف الآن