~بَحرٌ وَنُجوم~

29 7 2
                                    

وَقَفتُ عَلى شاطِئ البَحرِِ كُحلًا لِعَينِ القَمَرِ في الدُّجَى ،
وَكَأَنَني إِبنَةُ السَّاعَةَ الثّانِيَةَ فَجرًا مِن شَهرِ " أُكتوبَر" ؛
حامِلَةً في يَدي كوبُ قَهوَةٍ رَفيعَةَ السُّكونِ ، حَنونَةَ القَلبِ .

رَشَفتُ الرَّشفَةَ الأُولى مِن قَهوَتي ؛ فَتَذَكَرتُ ذَلِكَ الماضِي الَذي يَحمِل مَرارَتَها رَغمَ حِنِّيَتَها .
غَرِقتُ في غَياهِب تَفكِيري وَتُهتُ فِي سَرادِيبِه ، أَتَيتُ لَهُ ذَلِكَ البَحرُ ؛ أَمَلًا بِأَن يُقاسِمَني الحُزنُ والأَلَم الَذي أَعجَز عَن البَوحٌ بِه لِغَيرِه .
وَكَأَنَّ ذَلِكَ البَحرُ كَانَ عِزّ المَلجَأ .

تَأَمَلتُ أَمواجُه الَتي تَتَحَرَّك ذَهابًا وَإِيابًا ،
وَكَأَنَّها تَتَحَرَّك بِإِتِّجاهي لِتَحمِل هُمومي وَتَذهَب بِها ؛
وَما تَرجِع إلَّا وَهِيَ عائِدَةٌ بِالكَثيرِ مِن الهُموم ،
حَيثُ أَنَّ أَمواجُ البَحر كانَت تُصدِرُ لَحنًا ، وَتَعزِفُ الأَوتار ؛
لِتَجعَل ذَلِكَ الصَّوتُ لَحنًا خالِدًا فِي نَفسي .
نَظَرتُ إِلى كُوبِ القَهوَةِ في يَدي ؛
إِنَّهُ يَهتَزّ وَكَأَنَّ زِلزالًا أَصابَه ؛
وَهُنا أَدرَكتُ بِأَنَّ ما هَذا إِلّا تَأثيرُ عَواصِف الذِّكرَيات الَتي تَتَعاصَف في ذِهني ،
وَأَدرَكتُ أَيضًا ؛ بِأَنَّني أَخافُ الماضي ، وَ أَخافُ المُستَقبَلُ وَالحاضِر .

شَعَرتُ بِأَنَّني وَصَلتُ إِلى طَريقٍ مَليئٍ بِكُلِّ الأَشياءُ الَتي أَخافُ التَّفكيرِ بِها ، بِالأَشياء الَتي تُصيبُني بالرَّجفَةِ وَالغَثَيان مُجَرَّد أَن تَطرَأ عَلى بالي .

بَدَأَت الأَفكارُ تَتَراوَدُ وَتَتَراوَد إِلى ذِهني ، رَمَيتُ جَسَدي عَلى شاطِئِ البَحر تائِهَةً خَلف سَرابِ أَفكاري ، باحِثَةً عَن تِلكَ الفِكرَةَ المُتَطَرِّفَةِ في أَنحاءِ عَقلي ؛ لَم أَجِدُ مَن أَنا ، وَلَم أَعرِفُ مَن أَنا .
أَنا فَقَط هِيَ أَنا الَتي تَدَّعي بِأَنَها أَنا .
وَهُنا شَعَرت بِبُرودَة ماءِ البَحر ، وَكَأَنَّهُ يَطلُبَني بِأَن أُرَوِّحُ عَمَّا في خاطِري .

بَدَأتُ بِالشَّكوَى لِلبَحر ؛ وَهُوَ يُحَيِّيني بِأَمواجِه ،
وَكَأَنَّني أُلقي عَلَيهِ أَبياتَ الشِّعرِ المَحبوكَةَ بِخُيوطِ الأَلَم ،
نَظَرتُ إِلى المَاء فَرَأَيتُ نَفسي ، رَأَيتُ حَقيقَتي ، رَأَيتُ مَن أَنا ، رَأَيتُ تِلكَ الفَتاةِ القَوِيَّة ؛
وَقَفتُ وَعانَدتُ كُلُّ مَن أَحرَقَني وَذَرى رُفاتي وَأَشلاءِ قَلبي في كُلِّ زِقاق الكُره والتَّحطيم والتَّجريح ،
في الطُّرُق القَديمَةِ ، في البُيوت المَهجورَة ، في العُقول الَتي لا تَهدَأ ، وَفي القُلوب التائِهَة الَتي لا تُدرِكُ سَبيلًا لِلخَلاص ،
في الشَّغَف المَفقود ، في أَلَم الإِشتِياق ،
في رَجفَة الأَيدي ، في البُكاء لَيلًا عَلى الوِسادة أَو حَتّى الإِنزِواء في رُكنٍ خالٍ مِن المَنزِل كَي لا يَراهُم أَحَدُ ،
فِي جِراحُ الغائِبين ، في أَلَمُ النِّسيان ،
في صِراعات الأَرَق ، في الذِّكرَيات العالِقَةِ ، في سُمِّيَةَ المَلَل ، في التَّظاهُر بالقُوَّةِ رَغم الضَعف ،
في الإِنكارُ رَغم الإِنكِسار ،
في الأَحكامُ الجائِرَة ، في التَّفكير المُفرِط ، في القَوانينِ الخاطِئَةِ ،
وَجَدتُ نَفسي في كُلِّ ما لا أُحِب ،
سِوى فِي نَفسي ، فَلَم أَجِدُ نَفسي .

    وَأَنا مُرتَمِيَةً عَلى شَاطِئِ البَحرِ فِي دُجى اللَّيل ، نَظَرتُ إِلى السَّماءُ الَتي تَحتَضِنُ القَمَر ، أَدرَكتُ هُدوءُ البٕحرِ والأَمواجِ .
تَقارَبَت النُّجومُ إِلى البَحرِ ساطِعَةً وَمُستَغرِبَةً صَمتُ البَحر الَذي ما إِن سَمِعَ فَضفَضَتي حَتّى أَصابَهُ اللُّجم ؛
  هاجَ البَحرُ مِن جَديد ، وَكَأَنَّ النُّجومُ تُغازِلُهُ ، لِيَعزِف لَها أَلحانًا يَملَأُها الطَّرَب .
والقَمَرُ يُحيكُ أَبياتَهُ الشِّعرِيَّةَ غَزَلًا فِي البَحرِ وَ النُّجومِ .

تَذَكَّرتُ بِأَنَّني أَنا هِيَ تِلكَ القَوِيَّةِ الَتي كابَدَت وَجاهَدَت لِتَخَطِّي ذَلِكَ الماضِي الأًليم ، ذَلِكَ الماضِي الَذِي يُشبِهُ رَجُلٍ عجوزٍ كَبيرُ السِّنّ ، أَنا تِلكَ القَوِيَةَ ذَات التَّاريخُ الذَّهَبِيّ ، وَ المُعتَقَداتِ الغَريبَةِ ، والهَوِيَّةِ المَجهولَةِ .
أَنا تِلكَ القَوِيَّةَ الَتي لَا ، وَلَم ، وَلَن تَكُن ضَعيفَةً أَبَدًا .

   وَعَلى مِنبَر شَاطِئكَ يا بَحَر ؛ أَقولُ لَكَ بِأَنَني ذَاتَ يَومٍ آتِيَةٍ مِن جَديد ،
دُونَ أَن تُراوِدُني قَطَراتُ الدَّمعِ ،
وَكَأَنَّ المَوجُ أَيامًا ، تَتَقاذَفَني يَمينًا وَ شِمالًا .

  مَع خالِصِ شُكرِي ، وَبالِغِ تَحِيّاتي ؛ لِلسَّماءِ ، والبَحرِ ، وَالنُّجومِ ، والقَمَرِ .
 
  مِن عابِرَةِ سَبيلٍ عَلى شَاطِئكَ يَا بَحر .
~Marlen_79~
_وَعَــــد.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Oct 07, 2023 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

كُحلًا لِعَين القَمَرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن