الفصل الثالثمضى يومان، على الحديث الذي دار بين والدّا كوثر، لكن عقل والدّتها أبى إلا أن يبحث ويستعلم عن أفضل من بإمكانه القيام بالأمر إلى أن اهتدت له، لكنها لم تعلم بأنها ستأخذ ابنتها إلى الهلاك الذي لا عودة منه، كل ذلك حدّث وعلمت به أثناء محادثتها لإحدى جاراتها العزيزات والتي بمقدورها الإسرار لها بأي شيء.
_ أجل، أجل، هو يقوم بتنفيذ تلك العمليات البسيطة لكنه بحاجة للدفع المسبق.
_ أمتأكدة أنت؟! ألن يُطالب بأشياء أخرى.
_ لا أعلم حقيقة، كل ما أعلمه بأنه يقوم بتلك الإجراءات بالخفاء؛ لأنها مخالفة للقوانين المنتشرة، لكن لما تسألين!؟
_ لا، لا شيء ولكنه مجرد حديث متبادل بيننا كأي حديث.
ومضى حديثهما الذي لم يكن بواقعه كأي حديث كما قالت وأقرت أم محمد، ثم بدأت بالتجهيز للأمر وكأنه سر حربي لا تُريد لأحدٍ أن يعلمه من أهل البيت، حتى كوثر صاحبة الشأن وأهمهم زوجها الذي سيقلب الدنيا رأسًا على عَقِب إن هو علم بالأمر، إلى أن جاء الوقت المحدد الذي اتفقت عليه هي والممرضة المساعدة للطبيب وتم تجهيز كل شيء إلى أن تصل بصحبة ابنتها إليهم.
_ هيا كوثر، سنتأخر على موعد الطبيب يا ابنتي.
_ لما الاستعجال أمي؟ لدينا الوقت الكافي بعد.
_ لا سنتأخر، وأنا أطوق كي أرى أحوال طفل ابنتي القادم.
كانت تقول كلماتها بودٍ زائف ولهفةٍ كاذبة، أجادت إخفاءها إلى أن يتم الأمر الذي تريد، رغم حُبِها الشديد لابنتها إلا أن أعلام الفضيحة التي ترفرف أمام ناظريها أنكست أعلام الحب حتى لو كان ذلك مؤقتًا.
غادرتا كلاهما المنزل إلى أن وصلتا إلى عيادة الطبيب المنشودة، وجلستا تنتظرا أن تأتي الممرضة تخبرهم متى يحين موعدهما ويأذن لهم الطبيب برؤيته، لكن هناك قبضة خانقة أحكمت طوقها حول قلب كوثر كأنها ستفقد روحها بعد لحظات، وما لم تعلمه للآن بأنه تم التجهيز المسبق حتى تفقد فلذة كبدها وجنينها المستقر برحمها، البذرة الوحيدة التي زرعها إبراهيم قبل أن يغادر عالمها راحلًا بلا عودة، يطوق بها عنقها بأمانته الوحيدة التي خَلَّفَها لها، كل هذا تحت مسمى التخلص من الفضيحة التي تنتظرها كما ظنت والدتها، وكما رسمت كلمات أم إبراهيم طريقها السهل في عقل والدتها البسيط، التي تخشى على سمعة ابنتها أن يطالَّها طائل إن عَلِّمَ أحدٌ بأمر حملها الخفيّ الآن عن الأغلب.
وهناك عند أم إبراهيم، في وقتٍ سابق من الليلةِ الماضية، كانت تُصارِعُ بأنفاسِها المتلاحقة وركضها خلف ذاك الخيال، الذي لآزَّم رُؤاها المتتالية بلياليها الفائتة والحالية، وما كان هذا الخيال إلا إبراهيم يأتيها بوجهٍ كَدَر ماؤها، ثم يوليها ظهره مغادرًا إياها دون أن يستجيب لأي نداء منها مهما رجته مطالبةً إياه البقاء، فتستيقظ من نومها بأنفاسٍ مسلوبة وأعين تذرف من الدموع الكثير لشعورها بأنه حزين وهي سبب حزنه، أما هذه الليلة فقد كان قدومه إليها مختلفًا عن غيره من الليالي التي سبقتها، فقد صَحِبَ معه طِفلٌ يَحمِلُهُ بين ذراعيه، مادًّا إياه إليها حتى تتناوله من يديه، لكن قبل أن يصل إلى ذراعيها سقط من بين يدّاه مُضَرَّجٌ بِالدِّمَاءِ، لتأخذ الدموع مجرًى لها من بحور عيناه، ثُمَّ ينظر بالاتجاه الآخر ككل ليلة سبقت مثيلاتها لِيُغادِرها دون أي ردّ إلى أن أوقفه زياد هذه المرة مقتربًا منه مُحتضِنًا إياه يُطمئِن قلبه ويمسح على يديه فيعود صغيره بين يداه كأن شيئًا لم يكن، حينها تخترق الابتسامة وجه إبراهيم لينظر إلى والدته يَمُدُّ يدّه إليها بصغيره من جديد فتنشق ابتسامتها لرؤيته ضاحكًا مُستبشرًا، حينها مدت ذراعيها له تأخذ منه صغيره الذي جاء يُسَّلِمَها إياه دونًا عن الجميع، وما إن وِضِعَ الصغير بين ذراعيها حتى أنار المكان من حولها بنورٍ ساطع وكأنه شمسٌ سطع نورها بإذن ربها، اختفى وقتها إبراهيم من المكان ليحتل الساحة زياد بالقرب من والدته وطفل أخيه الراحل، لِيُتبِعَ تلك اللحظات استيقاظ أم إبراهيم من نومها مهللةً حامدة.
أنت تقرأ
ما كان له أن يحدّث
Romanceالواقع مُرٌّ كالعلقم، ولو نظرنا حولنا لوجدنا حكايات أليمة تستهلك أرواح ساكنيها من شدة نزف الروح لديهم، فما بالك بفكرٍ عقيم أنتج ضحاياه في كل زُقاق من أروقته، إلى أن وصل إلى عُقر دارك فأنهك منك الروح قبل الجسد، لحظة واحدة تتخلى فيها عن مبادئك لتتوه ف...