نافذة على الروح..

61 4 4
                                    

الصمت..في صمت تصدح أصوات أكثر وضوحا..كلمات قد تبدو عشوائية جدا و صرخات للوهلة الأولى يظن المستمع أنها متداخلة ..
إلا أن الحقيقة وحدها تظهر لمن يرهف السمع..
الذين يستمعون لذواتهم أولا بعدها يستطيعون فهم العالم..

و هكذا كان حال الأطراف جميعا..صمت عظيم..جميعهم في الحكاية أبطالا أم أشرارا في تلك اللحظة كانوا صامتين..
صمتهم يزخر بالأسئلة و أحيانا بالأجوبة على حد سواء..

سيدم أخرجت ورقة و قلما من جيبها..كأنها دائما جاهزة لطارئ ما..لاختفاء حقيبتها لأي ظرف من الظروف و بأي شكل من الأشكال..
لم تقطع أي مسافة في ضباب الصمت الذي يحيطها و يحيط بيان..
بل تركته يختلي بذاته..يرتقي بنفسه..بروحه..
تركته و خصوصيته و شأنه..ليحسم أموره و أفكاره على حد سواء..

استعارت قائمة الطعام وضعت عليها الورقة و أخذت في الكتابة..

( لطالما تجنبت جمع الذكريات..لطالما كرهت الصور و ما يخطه الناس في تلك الأوراق المتراصة حاملة التواريخ المسماة بالمذكرات..
و لكن على الأقل في هذه اللحظة بالذات لا أريد النسيان..أريد أن أتذكر أو على الأقل أترك أثرا خلفي يساعدني على التذكر..
الآن أوثق اللحظة..
أشياء بسيطة سأخطها..ورقة واحدة تحمل كلمات كثيرة و أسطرا..و لكن في حقيقة الأمر نستهلك- نحن البشر- كثيرا من الفواصل حتى تتضح الكلمات..
فينتهي الأمر بالأوراق - مهما كبرت - كونها لا تتعدى مساحات صغيرة بالكاد تكفي لقطرة واحدة من نفس المرء و رمق روحه..
تذكرت أشياء كثيرة منذ خروجنا من تلك الزيارة و حتى هذه اللحظة..
أشياء قرأتها و أخرى مرت علي في حياتي..
بعض تلك الأشياء ضبابي في عقلي رغم أن أثره ملموس في حاضري..
أتساءل إن كنت حقا عايشت تلك الأشياء و كنت حاضرة بها..
أتذكر ما عانيت من غضب..و الآن أعاني من الاحتراق و الغريب أن ما دون ذلك ليس واضحا..لو لم أكن وثقت تلك الآلام و ربطها بسجلات لها تواريخ و حسابات على الأرجح كنت سأفقد قدرتي على تتبع ما حدث..
ذلك ليس في صالحي حتى لو ظهر عكس ذلك..
لأنني لو نسيت دون رجعة لجرحت من ذات المكان مرتين..لأتوا إلي يكذبون ما عشت كما اعتادوا..لذلك أنا الآن أعمد لتسجيل حججي و مشاعري بغض النظر عما مر في حياتي من مواقف و تقلبات..
قد سجلت الألم كثيرا..ربما أكثر مما ينبغي..و تجاهلت كثيرا..أيضا ربما أكثر مما ينبغي...
اليوم هو يومي الأول الذي أوثق فيه الحب..
يحضرني ما قرأت في كتاب للدكتور مصطفى محمود رحمه الله..
الكتاب تحت عنوان الشيطان يحكم..
في جزء منه تحدث عن السلام النفسي..و كيف أن الذي يحب نفسه يستطيع أن يحب الناس و العالم..بل وحده الذي يقدر عطاءات الله في نفسه يستطيع أن يسلك طريقه لله آمنا مطمئنا دون خوف من ذل أو فقر أو نسيان..
و وحده الذي يكره ذاته قادر على رفع السلاح..قادر على القتل و على ارتكاب الجرائم و نشر الموت..فذلك انعكاس لذاته التي يكره..
و يده التي يبطش بها ما هي إلا صفعات يكيلها على نفسه فيظن أنه يشفى و الحال أنه يستزيد من العذاب..
و الحقيقة أنني لم أفهم ذلك فهما تاما أبدًا..و عندما عرفت حبك فهمت..
فهمت أنني لشهور طويلة في سنوات مضت كنت على استعداد للقتل..
ليس لأجل جرح أو ثأر لكرامتي..بل انتقاما للفتيل الذي أشعله ذلك الشخص في ذاتي من كراهية..من نقصان..
في الحقيقة أردت أن أقتل ذاتي التي عرفته..و التي استجابت لإشاراته فأمست تجلد نفسها ألف مرة - فوق المليار مرة حيث أجاد ذاتي بشكل طبيعي دون تدخلات - و قد كرهت ذلك..
كرهت أنه في طريقي لأقبل هذه الذات و أصلحها قدر الإمكان كما يحب الله فليس للذين يثيرون في أنفسنا الذنب و الكراهية لما نحن عليه مكان..
فهمت الآن ماذا يعني حقا أن نحب..
أنا و أنت صامتان الآن..و لكن نحن لا نخشى صمت أحدنا الآخر..لأن الله بيننا..و في ذكر الله تحضر كل معاني الحياة الحلوة..يحضر السلام و ترفرف علينا المودة بأجنحتها و ننبذ القسوة و نتآلف حتى لو كان بيننا محيطات كاملة..
الآن أنا و أنت متصلان..عقلا و روحا و جسدا رغم أننا جالسان في صمت يبدو للناظرين أنه شرس و مخيف..أنا و أنت نعمل لإقامة كيان واحد حتى في وجود طاولة بيننا.. بل في وجود عوالم و أكوان بيننا..
لأننا لا ننتمي لأي شيء سوى كوننا عبيدا لله فقط..و هذا يكفينا لنشعر بالوحدة و التآلف..
أتمنى أن يديم الله علينا هذا الحب..فهو هبته لنا التي لطالما تمنيناها إلا أنها أنت إلينا رحمة و قدرا دون كثير من التخطيط و السعي..
أحبك..و أعلم أنها ليست كافية.."

ظلالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن