ارتفعت الكرة الذهبية ناشرة خيوطها في كل اتجاه، فمسحت الكآبة عن البنايات الرمادية، و بعثت الحياة في شارع «سكواير ميل» من جديد. إنه آخر أيام يوليو (جويلية)، حين يستحم كل شارع في لندن بشلال الشمس المخملي الدافئ، بعدما يطرد نور الصباح آخر بقايا الضباب. أحدث المنبه جلبة، فتململ جون في فراشه، و مدَّ ذراعه إلى منضدة السَّرير الجانبية ليسكت رنينه الصاخب. تهدل شعره الأسود الحريري على جبينه، بعدما سحب رأسه من تحت الوسادة، و راح يتأمل النور الذي غمر الغرفة، ثم دفع الأغطية جانبا، و تثاءب و هو يعتدل في جلسته.
استغرق حمامه الصباحي أكثر من وقته المعتاد، لانشغال فكره بقضية السيد فيكتور أدامو، و استمر جون يسأل نفسه و هو يرتدي آخر قطعة من طقمه الأسود الأنيق: "ترى هل استطاع بول كريغ اقناعه على البيع؟"
كان أشد ما يحتاجه جون في ذلك الوقت هو فنجان قهوته الصباحي، لكنه آثر أن يعجل بالخروج و يتناوله في أي مكان. استقل المصعد من طابقه الخمسين-و هو آخر طابق في بنايته الشاهقة- و فوجئ بالسيدة جينا ستيل تنضم إليه من الطابق السابع و الثلاثين.
-أسعدت صباحا سيد أندرسون!
قالت ذلك بعدما دلفت غرفة المصعد، و أراحت يدها من حقيبتها الثقيلة، ثم مدتها نحوه محيّية، و ما إن رد تحيتها بحرارة حتى قالت:
-لحسن الحظ أنني صادفتك هنا سيد أندرسون، كنت سأهاتفك لأعلمك بمغادرتي الشقة.
رفع حاجبيه باندهاش و قال:
-ترحلين إذن سيدة ستيل؟
-ليس بشكل نهائى! لا شيء في هذا العالم يدفعني لترك شقتي المريحة هنا...
ضحكت بسعادة ثم مضت تضيف قائلة:
-... لكن ابنتي فايولا أنجبت توأميها حديثا، و هي بحاجة إلي هذه الفترة.
هز جون رأسه و قال بتفهم:
-فهمت! و كيف حال فايولا الآن؟
-اوه! لقد تماثلت للشفاء، الله وحده يعلم مدى خطورة القيصرية التي خضعت لها! لكنها تبلي جيدا، و التوأمان كذلك، و قد أرسلت في طلبي بالأمس لأعتني بهما، بينما تعود هي إلى عملها في المدرسة كسابق عهدها. فايولا امرأة حريصة و لا تحبذ فكرة الاستعانة بجليسة أطفال.
-الحق معها، دستةُ جليسات أطفال ماهرات لا يضاهين مهارة الجدة!
عند بوابة البناية، و بينما كان جون يسرع بخطواته الواسعة نحو سيارته السوداء الفخمة، استوقفه صوت السيدة ستيل، كانت تبدو شاحبة، و قد علت وجهها تقطيبة قلق و هي تقول:
-سيد أندرسون! أخشى أن أكون قد تسرعت حين أخبرتك عن ذلك القصر، كان يجب ألا أنكث بوعدي لوالدتك، و أن أبقي قصة «بلاك كاستل» بعيدة عنك!
-فات الأوان! وكيل أعمالي بول كريغ في قرية «سيليس» الآن،«بلاك كاستل» ارث عائلي، و سأستعيده بأي ثمن!
-لكنك تعلم يا سيدي أنه لم يعد ذلك القصر الجميل الذي بناه جد والدتك، لقد أصبح مجرد جدران سوداء تلهو فيها الأشباح! آه يا سيدي المحترم...! آمل ألا تعرض نفسك للخطر، لن أسامح نفسي أبدا إن حل مكروه بك!
ربت جون على كتفها بثقة، و لاحت على شفتيه ابتسامة ساخرة معقبا:
-لا تقلقي سيدة ستيل! بعد اتمام العقد مع السيد أدامو، سأعتني جيدا بتلك الجدران السوداء المسكونة، سأحولها لأجمل قصر في العالم!
عبست السيدة العجوز من سخريته، و حاولت من جديد ثني عزيمته الصلبة قائلة في نبرة تحذير:
-معذرة منك سيدي! و لكن لا يجب أن يمزح المرء في مثل هذه الأمور، ذلك القصر الأسود أصبح ملعونا منذ ما يقارب القرن، و يقال أن كل من يلجه تطاله اللعنة!
أطلق جون زفرة طويلة و وعد السيدة ستيل بأن يأخذ نصيحتها بعين الاعتبار، ثم قال و هو يفتح باب السيارة قبل أن يمتطيها:
-سأكون في الخدمة إن احتجت أنت و فايولا أية مساعدة!
و تركها خلف ضباب سيارته حيرى! لا تدري كيف تقنع شخصا عنيدا صعب المراس كجون أندرسون؟ و غمغمت في استسلام و هي تشق طريقها لتوقف سيارة أجرة: "إنه كجده سلفاتور تماما! عنيد و قوي الارادة، لكنه لا يدري... أنه سيوقظ شرا عظيما!"
طول الطريق و جون يفكر في الأمر، و تصميمه يزيد في كل لحظة على الظفر بـ «بلاك كاستل» مهما كلفه ذلك من مال أو متاعب! إنه إرث الأجداد، و لن يتخلى عنه بسهولة، حتى قصة السيدة ستيل عن الأشباح لن ترغمه على الانسحاب مما بدأه، كان جون مستعدا لخوض حرب عظمى مع فيكتور أدامو من أجل «بلاك كاستل» لو تطلب الأمر!
و لم يقطع تفكيره العميق سوى رنين هاتفه الخلوي، و جاء صوت بول كريغ باهتا ينذر بالأخبار السيئة!
-مرحبا أيها الرئيس! أهاتفك من «سيليس»، لقد تعذرت علي مقابلة السيد أدامو، تقول مدبرة قلعته السيدة باول أنه مسافر إلى باريس لأسباب شخصية.
-هكذا إذن! و متى يعود؟
-ربما غدا! لكني مضطر للعودة إلى لندن الآن سيدي، فزوجتي على وشك الولادة.
-طبعا يا كريغ! يجب أن تكون إلى جانبها في هكذا ظرف، استقل أول طائرة قادمة إلى لندن، و دع قضية أدامو لي!
-ما الذي تنوي فعله سيدي؟
-سأقصد بلجيكا الليلة... و لن أعود إلا و مفتاح «بلاك كاستل» معي!
ران صمت قصير سرعان ما قطعه بول قائلا في نبرة غريبة:
-إنني لواثق من قدرتك على الإقناع أحسن مني أيها الرئيس! و لكن... يتوجب علي تحذيرك!!
تساءل جون و هو يصف السيارة في شارع «بورتوبيلو رود»، فقال:
-ما الأمر يا كريغ؟
-يبدو فيكتور أدامو هذا شخصا غريب الأطوار، قيل لي أنه أغلق «بلاك كاستل» منذ سنوات طويلة، و بنى على مقربة منه قلعة «الأبراج الزرقاء» و اتخذ منها مسكنا، حتى تتسنى له مراقبة القصر، و ردع ذوي الفضول من دخوله، إنه و كغيره من سكان «سيليس» يؤمن بأن لعنة ما حلت بذلك المكان!
نزل جون من سيارته و قد ضاق صدره مما يشاع عن «بلاك كاستل»، و بدت له قصة اللعنة تلك مجرد ترهات! رغم أنه كان على دراية بما وقع هناك في القرن الماضي، إلا أنه لم يعر تلك الوقائع المرعبة أدنى اهتمام!
كان جد والدة جون أرستقراطيا فرنسيا، بيرنارد كولين، ذلك الرجل الذي عشق فتاة بلجيكية، و ذهب في عشقه الجنوني لها إلى حد خيالي، فبنى لها قصرا ملوكيا بين الغابات في ضواحي قرية «سيليس». رآها ماسة بديعة الجمال، فوضعها في قصر ذهبي، محاط بأسوار من الأشجار الخضراء.
و سكن بيرنارد و محبوبته ماري إنسور القصر بعد تشييده بسنة، عام 1878، أطلق عليه اسم «شاتو دي سولاي» أو «سان كاستل» أي قصر الشمس! نسبة لأبراجه الذهبية، التي تلمع كلما التقت بأشعة الشمس فتبهر الناظرين. بعدما رزقا بثلاث صبيان، توفي بيرنارد و ماري على التوالي، عام 1932، و شاءت الأقدار أن يموت الولدان الأكبران بوباء خطير، فلم يتبق سوى الابن الصغير سلفاتور كولين.
و لما بلغ سلفاتور عامه الثالث و الثلاثين، قرر الزواج و إنجاب وريث يحفظ اسم العائلة من الزوال، خاصة بعدما بلغه خبر وفاة آخر قريب له في فرنسا بساحة الحرب! كانت أنغريد زوجة سلفاتور ابنة الدوق البلجيكي فلاديمير كورنيل آية في الجمال، و لقبت بسيدة الشمس! البعض أرجع ذلك إلى كونها سيدة قصر الشمس، في حين حكى آخرون أن شعرها الذهبي الطويل، و بشرتها ثلجية البياض، قد أكسباها ذلك اللقب! لكن لا الجمال الخلاب، و لا لقب سيدة الشمس، ساعدا أنغريد في الحفاظ على سعادتها! فسرعان ما كان يموت كل ابن تنجبه، و في آخر حمل لها... بارك الله ولادتها، إلا أنها وضعت فتاة! كانت تلك مارثا والدة جون، و رغم أن مجيئها أسعد سلفاتور و أنغريد، لكنها لم تكن الذكر الذي ينتظرانه بفارغ الصبر!
و قد حكت السيدة ستيل-التي كانت والدتها تخدم مدبرة في ذلك القصر آنذاك- أن أنغريد عانت من هلوسات بسبب عدم قدرتها على إنجاب ذكر دون أن يموت! و ساءت الأمور إلى درجة أن أنغريد أقدمت على إضرام النار في القصر، و لحسن الحظ كانت مارثا بعيدا عن القرية برفقة المدبرة السيدة ماتيلد، و حين عادت هذه الأخيرة، وجدت أن النيران قد التهمت جسدي الزوجين فأفحمتهما داخل غرفتهما، و فارقا الحياة!

أنت تقرأ
قصر الشمس
Horror"اندلعت نيران مهيبة هنا و هناك، السرير... الخزانة... السجاد... الستائر الجميلة... حتى المرآة العاجيَّة تحترق! ركضت و علا صراخها و هي تحاول الخلاص بنفسها، كان الباب موصدا، و عبثا حاولت فتحه، رددت أسماء كل من في القصر، هل يعقل أنهم لم يسمعوا صيحاتها؟...