الجزء الثالث

74 11 13
                                    

إعتدل في جلسته وقال:"أنا عمر ويمكنكِ أن تناديني أسامة كما يفعل البعض من أقاربي، الشهر الذي مضى كنت قد إحتفلت بعيد ميلادي التاسع عشر، وأنا أكبرك بعامين، هذا عامي الثالث بالثانوية ولازلت عالق بالسنة الأولى، أعدت مرتين ليس لأنني غبي ولكن كل عام أمرض ولا أستطيع التركيز وأدخل في دوامة الإكتئاب والحزن وبالتالي أعيد السنة، أنا لست شخصاً مثالياً لكنني أحاول أن أكون كذلك، تأكدي أنني لو أحببتكِ سأحبك بكل جوارحي، أعجبت بكِ منذ أن رأيتكِ في جنازة والدتكِ رحمة الله عليها، ومنذاك اليوم وأنا أدعي الله أن تكوني لي وأن يجمعني بكِ في الحلال، وكما ترين أن الله قد إستجاب لدعائي لكنني لم أكن أعلم في هذا السن، لكنني سعيد وللغاية، أعلم أن السنوات القادمة ستكون صعبة للغاية، سنواجه الكثير من الإتهامات والكلام السيء لكنني سأدعمكِ دائماً يا عائشة"
إبتسمت وقلت:"حقاً لم أجد ما أقوله، أسعدتني كثيراً بكلامك، وأنا مسرورة لأنني تعرفت عليك، كما ترى أكاد أتنفس من شدة الخجل لنكمل باقي حديثنا بعد الخطبة"
إبتسم إبتسامة عريضة تكاد تكون ضحكة ثم قال:"حسناً كما تشائين، لنذهب إذاً"
غادرنا الغرفة وذهبنا للصالة التي بها أقاربنا، تمت الخطبة وتعالت الزغاريت ثم إنفردنا لنكمل حديثنا وأول ما قلته له هو:
"ليس لدي أية مشكلة في هذا الزواج لكنني لا أود أن نقترب من بعض إطلاقا"
قطب عمر حاجباه وقال:"حتى الحديث؟"
قلت بجدية:"نعم، وأيضا ما دمنا في نفس الثانوية لا أود أن يعلم أحد أننا متزوجان وهذا بعدما نتزوج طبعا"
قال عمر بإستسلام:"حسنا كما تودين، لن نقترب من بعضنا ولن يعلم أحد أننا متزوجان"
إبتسمت وأومأت برأسي ثم غادرت.
جرت الأمور كلها بسرعة، وها قد تزوجنا ولم يكن هناك حفل زفاف ضخم أو حتى بسيط، لم يود كلا العائلتين جلب الأنظار وقررا إخفاء الأمر حتى لا تتضرر سمعتي، ولم يكن الجميع سعيدا للغاية بل إكتفوا بإبتسامة مزيفة وكذلك أنا، ولكنني لم أكف عن التفكير في هذا الأمر.
إنتهت العطلة وهاقد أتى اليوم الذي سيعود فيه الطلاب إلى مقاعدهم الدراسية، وهنا كانت المفاجأة...كنت أنا وعمر في نفس الصف، لم يعجبني هذا الأمر عكس عمر الذي كاد يطير بالسعادة، قمنا بإخفاء الأمر جيدا، ولكن الأيام توالت وكان يجب أن تظهر الحقيقة، كنت منبوذة بعض الشيء في تلك الثانوية لأن معظم الإناث هناك لا يحبون المتدينات ولا حديثهم الذي يعتبرونه مملا للغاية، وكل فتاة متدينة كانت تتدمر نفسيتها تماما في تلك الثانوية، وكاد يكون هذا حتفي لكن عمر وقف بجانبي، في ذاك اليوم كنت أسير في الساحة مع فتاتين متدينات مثلي، أوقفتني مجموعة من البنات وكان معظمهم يرتدي القصير وآخر يرتدي ملابس ممزقة هداهن الله، الفتاتين اللتان كانا معي هربا بعيدا لأنهما يعلمان المصير الذي سيواجهانه مع هذه المجموعة إن تجرأن على التحدث معهم، ولكنني بقيت في مكاني وإبتسامتي لم تغادر وجهي الجميل..
قلت بصوتي الطفولي الناعم:"السلام عليكم يا بنات، كيف حالكن؟"
نظرت كل واحدة للأخرى ثم بدأوا يضحكون بقوة وتقدمت زعيمتهم لتدفعني فأقع على الأرض..
ثم أسرعت بالنهوض وقلت:"لما دفعتني مالذي فعلته لك، هل أخطأت معك؟"
نظرت لي الأخرى بإحتقار وقالت:"نعم أخطأت، أخطأت بمجيئك إلى هنا، هذا ليس مسجد يا منافقة"
قلت بعصبية:"أستغفر الله وما دخل المسجد بالأمر؟ إحترمي على الأقل دينك لأنني كما أرى أنت لا تحترمي نفسك حتى"
رفعت الفتاة الأخرى يدها ولكمتني بقوة على وجهي حتى نزفت من أنفي وفمي، وبدأن الأخريات بالضحك على حالتي، تدخل عمر بسرعة وأخذني معه، بقيت الفتيات في حالة ذهول ذلك لأن عمر يعتبر أوسم فتى في الثانوية وكل الفتيات معجبات به أما زعيمة تلك المجموعة فهي تعشقه بجنون حتى أنها حاولت العديد من المرات إغراؤه ليخرج معها في موعد لكنه كان دائما يرفضها، غضبت عندما رأت تصرفه معي، أخذني للحمام وحاول إيقاف نزيف أنفي ومسح الدم الذي نزل من فمي، وأنا كنت أتوجع من شدة الألم، أنا ذات جسد ضعيف أمام جسد تلك الفتاة المليء باللحوم والشحوم ما شاء الله عليها، كان عمر يمسح دمي وأنا أنظر له بحب، وهو كاد يفقد وعيه لأن أنفاسه إختلطت بأنفاسي وإخترقت رائحتي الخفيفة كل حواسه، إنتهى من تنظيف الدم وأوقف نزيف أنفي ثم نظر إلي بحب وقال:
"هل أنت بخير؟"
قلت ببراءة:"كلا لست بخير لقد آلمتني تلك الفتاة، أنا لم أخطأ معها بأية كلمة لما تصرفت معي بتلك الطريقة البشعة؟"
نظر إلي عمر بحب وقال:"هن هكذا يا عزيزتي، وأنت الآن في مكان مختلف عليك الإعتياد على الأمر وحاولي الإبتعاد عن تلك المجموعة قدر ما تستطيعين، فهن يكرهن الفتيات المتدينات وكلما تجرأت على الوقوف أمامهم سيفعلون لك أشياء بشعة لم تكوني لتتخيليها حتى، وأطلبي مني المساعدة كلما إقتربن منك"
نظرت إليه بحب وقلت:"لم أعاملك بشكل جيد من قبل لكنك تعاملني بشكل جيد، أكاد أشعر بالسوء من نفسي يا عمر"
وضع يديه على كتفاي وقال:"كلا، لا تشعري بالسوء مطلقا، هذا لأنك لم تعتادي على الإقتراب من شخص غريب ولأنك لم تقعي في الحب بعد، وأنا أعاملك بهذا الشكل لأنني أحبك وكلما كنت بجانبي أشعر بالطمأنينة وصدقيني إنني أشعر بالسعادة عندما تتحدثين معي حتى ولو كنت تطلبين مني الإبتعاد عنك، لم أغضب منك ولم أكرهك ولن أفعل ذلك، وأنا أنتظر تخرجك بفارغ الصبر"
ضحكت بخفة وقلت:"لا تتوقع الكثير مني، وشكرا لك على مساعدتي ودعمك لي"
إبتسم عمر وقال بحب:"بكل حب وسرور، خلاف ذلك أنا أساعد زوجتي وليس شخص غريب"
قال كلامه الأخير وهو يهمس لي في أذني، وضعت يدي على فمه وقلت:
"أصمت يا عمر لعل أحد ما يسمعك"
قبل عمر باطن كفي وبعدما أبعدتها بخجل قال لي:"حسنا لن أعيدها يا عائشتي، دعينا نذهب الآن قبل أن نتأخر على حصة الفيزياء ونسمع تذمر الأستاذ"
ضحكت ثم أومأت برأسي وذهبنا للحصة؛ إنتبه الأستاذ لي وقال:"ما به وجهك يا عائشة؟ هل إفتعلت شجارا؟"
لم أعرف مالذي يجب علي قوله، وسرعان ما أجاب عمر في مكاني:
"قامت مجموعة BKL بضربها يا أستاذ"
تنهد الأستاذ وقال:"أولئك الغبيات، سأتحدث مع المدير بشأنهن وسنجري إجتماع حيث سيتم فصلهن جميعا"
نهظت بسرعة وقلت:"أستاذ لا تفعل ذلك، أنا لست غاضبة منهن لما فعلوه معي، كل ما في الأمر أنهم لم يجدوا من يرشدهم إلى الطريق المستقيم وأنتم بدوركم أساتذة أعتقد أنه يجب عليكم أن ترشدوهم إلى الصواب لا أن تفصلوهم من الدراسة، إن الفصل لقرار خاطئ ولن يعقد إلا الأمور فلا شاء الله عندما يتم فصلهن يتخذن طريقا أسوء من هذا، أرجوك أستاذ أعد التفكير وفكر على مهل"
إبتسم الأستاذ وقال:"أعجبني كلامك يا عائشة وطبعا سأفعل ما طلبتيه مني لأنك على حق، تالله لم أقابل شخصا مثلك من قبل ما شاء الله حفظك الله وبارك الله في الذي رباك"
إبتسمت ثم جلست ببطء لأنه جعلني أتذكر والدتي، سقطت دمعة من عيني بدون سابق إنذار وسرعان ما أزلت آثارها حتى لا يلاحظها أحد، لكن عمر كان يشاهدني وكان يعتصر ألما من أجلي، مر وقت قصير فرمى لي ورقة صغيرة وعندما فتحتها وجدت المكتوب فيها(لا تحزني فالحزن لا يليق بك)، أدرت بوجهي لعمر الذي يجلس على يساري وإبتسمت بحب فبادلني الإبتسامة، بعد حصتين إنتهى الدوام المدرسي فغادرنا مع بعض وكنا ندردش طوال الطريق حتى قطع طريقنا مجموعة BKL، تقدمت زعيمتهم التي هي مهيمة بعمر وقالت له بعصبية وسخرية:
"ترفضني أنا من أجل منافقة مثلها، تدعي أنها متدينة ولكنها تتخذ شابا كصديق وتدردش معه وتبقى معه في الحمام والله أعلم مالذي فعلته معه!"
أمسكت مرفق عمر وكنت أضغط عليه، قال عمر بصراخ:
"ما شأنك؟ ما شأنك أنت؟ لا تتدخلي فيما لا يعنيك، على الأقل إحترمي نفسك، لا كرامة ولا حياء، أين هي قيمتك يا فتاة؟ عيب عليك، ومرة أخرى أقول لك لا تتدخلي فيما لا يعنيك وإبتعدي عني وعنها"
ثم تركها وذهب، تركت يدي وقلت وأنا أمرر بيدي على المكان الذي كنت أضغط عليه في مرفقه:
"أعتذر لم أكن على إستعداد لقول أي شيء وآلمتك عبثا"
مسك عمر يدي وقبلها قائلا:"لا عليك، أحب إقترابك مني وهذه اليد الصغيرة الرقيقة لم تألمني بتاتا"
ضحكت بخفة وقلت:"أين تقطن؟"
قال بمزاح:"أنت منزلي وأينما كنت أنت تجدينني أنا"
خجلت بشدة فلم أستطع الكلام فقال لي:"أقطن في منزل يبتعد عن منزلك بشارعين"
فقلت له:"إذن هنا نفترق؟"
قطب حاجبيه وقال:"طبعا لا، سأوصلك إلى منزلك وسألقي التحية على عمي ثم أذهب لمنزلي"
نظرت إليه بإهتمام وقلت:"ولكن ألم يتأخر الوقت؟"
إبتسم وقال:"معك أنا لا أشعر بالوقت حتى، لا بل أنا لا أشعر بأي شيء، فحواسي كلها تكون تحت تخدير وأنا معك"
إلتزمت بالصمت وتابعت السير، ضحك عمر في أعماقه لخجلي.

زواج بدون قيودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن